ما حكم الـمضمضة في الوضوء مع عدم وصول الماء تحت الأسنان المزروعة؟

مع التطور الطبي وانتشار عمليات زراعة الأسنان بشكل واسع، بات من الشائع وجود تركيبات صناعية دائمة في فم الإنسان، ما دفع كثيرين لطرح تساؤلات فقهية حول صحة بعض العبادات المرتبطة بالطهارة، وعلى رأسها “الوضوء”. ويبرز في هذا السياق سؤال مهم: ما حكم المضمضة في الوضوء في حال وجود زرعات أسنان، مع عدم قدرة الماء على الوصول إلى ما تحتها؟ وهل تؤثر هذه التركيبات الثابتة على صحة الطهارة؟ وأوضحت دار الإفتاء الطهارة صحيحة ومجزئة في الوضوءِ والغسلِ في حقِّ مَن ركَّب أسنانًا صناعية بحيث اتصلت بمكانها البديل عن الأسنان الطبيعية اتصالًا ثابتًا مستقرًّا، ولا يُخَاطب المتطهر حين طهارته بإيصال الماء إلى ما تحت هذه الأسنان.
الطهارة من الحدث الأصغر والحدث الأكبر
لمَّا كانت موجبات الطهارة في الشريعة على قسمين، وهما: الحدثُ الأصغرُ، والحدثُ الأكبر، تَبِع ذلك أنْ كانت هيئةُ أفعال الطهارة أيضًا على قسمين، فكان الوضوءُ -وهو غسل أعضاء مخصوصة من البدن- هو الفعلَ اللازم للتطهر مِن الحدث الأصغر، وكان الغسل -وهو تعميم جميع الجسد بالماء- الفعلَ اللازم مِن الحدث الأكبر؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ﴾ [المائدة: 6].
أقوال العلماء في حكم المضمضة في الوضوء مع عدم وصول الماء تحت الأسنان المزروعة
أسنان الإنسان متعلقة بحكم المضمضة المشروعة في شِقَّي الطهارة (الوضوء والغسل)، فإذا ما استعاض الإنسان عن أسنانه الطبيعية بأسنانٍ أخرى صناعية ثابتة -كما في مسألتنا- كانت طهارته في الوضوء والغسل بهذه الأسنان إذا تمضمض عليها صحيحة ومجزئة عن فعل المضمضة، ولا يشترط إيصال الماء إلى ما تحت هذه الأسنان مِن بشرة الفم واللثة، وذلك لأمرين:
الأول: أن الأسنان الصناعية قامت مقام الأسنان الطبيعية قبل خلعها وصارت كالأصلية.
وقد نصَّ الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن ما قام مقام العضو يأخذ حكمه في الطهارة، سواء كان حائلًا لوصول الماء إليه مع بقاء العضو، أو كان بديلًا عنه في حالة زوال العضو، ولا فرق في ذلك بين أنْ يكون ذلك متصلًا بالبدن اتصالًا بأصلِ الخِلْقة؛ كشعر اللحية الكثَّة، أو بغير أصلِ الخِلقة مِن نحو ما يتخذه الإنسان لمداراة عيب أو تكميل عضو أو أشباه ذلك؛ كالأنملة وأجزاء الأطراف ونحو ذلك مما يشق نزعه عند كلِّ طهارة، إعمالًا لما تواردت عليه النصوص الشرعية وقررته القواعد المرعية؛ فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان، وتقرر في قواعد الفقه أنَّ "الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 49، ط. دار الكتب العلمية).
وعلى ذلك تواردت نصوص الفقهاء:
قال الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (1/ 16، ط. دار الفكر): [وجوب الإسالة على شعر اللحية؛ لأنه أوجب غسل الوجه وحده بذلك.. وفي "الفتاوى الظهيرية" وعليه الفتوى؛ لأنه قام مقامَ البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب، وقال في "البدائع" عن ابن شجاع: إنهم رجعوا عما سوى هذا، كلُّ هذا في الكثة] اهـ.
وقال الملا خسرو الحنفي في "درر الحكام"): [والصحيح قولنا؛ لأنَّ محلَّ الفرض استتر بالحائل وصار بحالٍ لا يواجه الناظر إليه فسقط الفرض عنه وتحوَّل إلى الحائل] .
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "التلقين" (1/ 19، ط. دار الكتب العلمية): [فإنْ كان عليه شعر: لزم إمرار الماء عليه، ثم ينظر؛ فإنْ كان كثيفًا قد ستر البشرة سترًا لا تتبين معه: انتقل الفرض إليه وسقط فرض إيصال الماء إلى البشرة، وإنْ كان خفيفًا تَبِين منه البشرة: لزم إمرار الماء عليه وعلى البشرة، وسواء في ذلك أنْ يكون على خدٍّ أو شَفَة أو حاجب أو عذار أو عنفقة، ويلزم فيما انسدل عن البشرة كلزومه فيما تحت بشرة] .
وقال العلامة شهاب الدين الرملي الشافعي في "فتاويه" (1/ 40، ط. المكتبة الإسلامية): [(سُئِل) هل يجب غسل الأنملة والأنف المتخذَيْن مِن الذهب مثلًا مع ما يجب غسله في رفع حدث أصغر أو أكبر أو إزالة نجس مخفف أو مغلظ حتى يجب الترتيب أم لا؟
(فأجاب) بأنه يجب الغسل المذكور؛ لأنَّه وجب عليه غسل ما ظهر مِن الأصبع والأنف بالقطع، وقد تَعَذَّر للعذر، وصارت الأنملة والأنف كالأصليَّيْن]
والشك أو التردد في صحة الطهارة لعدم وصول الماء إلى أسفل هذه الأسنان الصناعية تكلفٌ لا معنى له؛ إذ الخطاب بالمضمضة في أصله لا يتناول أسفل الأسنان الطبيعية بوجهٍ من الوجوه، فإذا قُلِعت هذه الأسنان وبُدِّلَت بغيرها انسحب حكمُ الأصل إلى ذلك البديل الذي قام مقامَه، فلم يخاطَب المكلف بإيصال الماء إلى ما تحتها، ما دامت هذه الأسنان ثابتة يتعذر نزعها؛ إذ إن كلَّ ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن مقتضى ما يتناوله النص وقضيته.
قال العلامة بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية": [(إلَّا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن قضية النص) ش: أي مقتضى النص وتناوله] .
والثاني: أنَّ المضمضةَ سُنَّة في الوضوء والغسل، على ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة في رواية، ووافقهم الحنفية في الوضوء، أما في الغسل فقد قالوا بوجوب المضمضة فيه، وذهب الحنابلة في المعتمد إلى وجوبها في الوضوء والغسل.
قال العلَّامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع": [(ولنا) أن الواجب في باب الوضوء غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس. وداخل الأنف والفم ليس مِن جملتها، أما ما سوى الوجه فظاهر، وكذا الوجه؛ لأنه اسم لما يواجه إليه عادةً. وداخل الأنف والفم لا يواجه إليه بكل حال، فلا يجب غسله، بخلاف باب الجنابة؛ لأنَّ الواجب هناك تطهير البدن بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ﴾ [المائدة: 6]، أي: طهروا أبدانكم؛ فيجب غسل ما يمكن غسله مِن غير حرج ظاهرًا كان أو باطنًا، ومواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهما في الوضوء دليل السُّنِّيَّة دون الفرضية، فإنه كان يواظب على سُنَنِ العبادات] .
وقال العلامة المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" : [قوله: (وهما واجبان في الطهارتين) يعني المضمضة والاستنشاق. وهذا المذهب مطلقًا. وعليه الأصحاب ونصروه، وهو من مفردات المذهب.. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى. وعنه: أنهما واجبان في الصغرى دون الكبرى، وعنه: هما سُنَّة مطلقًا] .
فعلى قول الجمهور تصح طهارة وصلاة المكلف ولو بدونها، فلأن تصح بفعلها مع عدم وصول الماء لبعض أجزاء الفم أَوْلى، بل هي صحيحة أيضًا على قول مَن أوجبها؛ لأن الأسنان الصناعية لمَّا رُكِّبت اتصلت بمكانها البديل عن الأسنان الطبيعية اتصالًا ثابتًا مستقرًّا، فقامت مقام الأصل وجرت عليها الأحكام كالأصلية.