عاد دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية في سابقة لم تحدث من قبل ولكنه لم يعُد بسابقة واحدة فريدة، عاد بجعبة مليئة بـ "السوابق" من مختلف التصنيفات. ومن هذا المنطلق روج لإستراجيات ثورية. من شعار "سنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" أو بالإنجليزية "Make America Great Again" (MAGA) الشعار الشهير الذي استخدمه منذ حملته الانتخابية الأولى في عام 2016، وأصبح لاحقاً رمزا لفترته الثانية، إلى محاولة ترجمة سياسته الجديدة تجاه إفريقيا وفقا للقائه الأخير مع القادة الأفارقة في البيت الأبيض.
حضر إلى البيت الأبيض خمسة من قادة غرب إفريقيا في زيارة رسمية امتدت من التاسع إلى الحادي عشر من يوليو 2025، بعد تمهيد وتحضير لعدة أشهر بين خارجيات الدول الخمس ومكتب الشؤون الأفريقية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية بناءا على تنسيق مستشار الرئيس للشؤون الإفريقية ماساد بولوس. جاء اللقاء بمثابة قمة إفريقية مصغرة في البيت الأبيض، رُوِج لها جيدا في الإعلام الأمريكي ووصِفت بأنها أول اجتماع ربع سنوي مع قادة أفارقة، يتبعه "قمة أكبر" مقررة في الأمم المتحدة في سبتمبر 2025. والدول الخمس التي تطل جميعها على ساحل المحيط الأطلنطي وهم الغابون وليبيريا وغينيا بيساو والسنغال وموريتانيا، دول اقتصاداتها متواضعة لكن ذات كثافات سكانية كثيفة وثروات معدنية ثمينة على حد سواء. وكما تقول التقارير ظهرت الانتقائية السياسية والاقتصادية بشدة في هذا التجمع الذي حظي لسنوات باهتمام الولايات المتحدة متمثلا في نشاط عسكري وأمني مكثف يستطيع ترامب من خلاله بناء قاعدة ناجحة لاستثمارات نفطية ومعدنية ناجحة.
وصف البيت الأبيض الحدث على أنه "فرصة تجارية مذهلة" لعنوان استراتيجية "التجارة لا المساعدات" التي ارساها ترامب سابقا، والتي طرح فيها 10% رسوم جمركية على السلع المُصدرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. شملت الزيارة المطولة فعاليات مختلفة وجلسات مذاعة في بثوث مباشرة واجتماعات مغلقة، مما أعطى انطباع مغاير لتوجه الإدارة الأمريكية في فترة ترامب الأولى، والتي شَهِدت محطات سياسية ملتهبة. لم يزر ترامب في فترته الأولى أي دولة إفريقية ولم يعقد قمما معهم من قبل. كما أنه اتخذ إجراءات شديدة التعسف حيال هجرة الأفارقة ومنع التأشيرات لعدد من الدول منهجا، في ما عرف بـ " Muslim Ban" . كما أنه قَيْد برامج أمريكية تنموية طويلة الأمد مثل برنامج الطافة "Power Africa" و برنامج الأمن الغذائي "Feed The Future". ، هذا بالإضافة للإساءة المباشرة التي وجهها ترامب في تصريحاته السابقة عندما وصفهم بـالدول "الحثالة"، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة حينها في 2018 وقلد ترامب منصب عدو صريح لإفريقيا.
ولكن مع التفوق الصيني على أمريكا في هذه الدول والذي بات يؤرق سيد البيت الأبيض للحد الذي دفع مجموعته الاستشارية لكي تنتقي هذه الدول دون غيرها، في محاولة لمناوأة المصالح الصينية بها، كان عليه تقديم بادرة تواصل عملبة. فعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد اختيار موريتانيا الذي أسقطت عنها الصبن 21 مليون دولار في 2024 وأعلنت منحها إعفاءً جمركياً كاملاً (zero-tariff) على جميع خطوط التعريفة (100% tariff lines)، مما عزز جاذبية الشراكة التجارية، لتوقع موريتانيا مع الصين في 2025 اتفاقية جديدة بقيمة 27.5 مليار دولار لتمويل مشاريع تنموية وتوسيع الشراكة في إطار مبادرة الحزام والطريق. كما نستطيع ملاحظة اختيار الجابون باعتبار الصين الشريك التجاري الأول لها، ليس بعيدا عن هدف تعطيل أسطول الصين الذي يستورد ما لا يقل عن 25% من احتياجاتها من المنجنيز من الجابون. كما ان الصين تعتبر بمثابة الراعي الرسمي والحصري للبنية التحتية في الجابون، حيث أنشأت الميناء الرئيسي والطريق السريع الأوحد بالبلاد وعدد كبير من المشروعات التنموية غابت عنها الولايات المتحدة وحتى المستعمر الأوروبي القديم.
ويبدو أن الأفارقة هما الآخرين كانت لديهم الرغبة في ممارسة بعض المنافسة للحصول على مكاسب اقتصادية أكثر نفعا لبلادهم من الصين، فهرعوا كعادتهم دون تنسيق محكم يخدم مصالحهم. بدأ ترامب اجتماعاته مع القادة الخمس بالتسويق لشخصه من خلال تدخله مؤخرا بين جمهورية الكونغو الديموقراطية ورواندا والتي أنهت الحرب بين الجارتين في مقابل حصول الولايات المتحدة على معادن الكونغو النفيسة مجانا نظير إنهاء الحرب، معتبرا أنه على الأفارقة ترشيحه لنيل جائزة نوبل للسلام، والذين بدورهم أثنوا على مضيفهم وقدموا وعودا بالترشيح للجائزة. سيطرت على اللقاءات محاولات جذب الاستثمارات الأمريكية إلى دول الساحل الغربي، مثل رئيس السنغال باسيرو فاي الذي حاول إغراء ترامب بإطلالات داكار البحرية قائلا "أود دعوة المستثمرين الأمريكيين للمشاركة في بناء مدينة تكنولوجية على الساحل". بينما قال رئيس الغابون برايس نغيما إن بلاده تمتلك ثروة معدنية نادرة متاحة للكشف والتنقيب ونحن نرحب بالشريك الأمريكي قبل أن يأني شريكا آخر قاصدا الصين.
لم يعي الأفارقة أن ترامب الذي سبق له أن أهانهم دون اعتذار، لا يحتاج اليوم وهو في أوج مجده إلى إعطائهم أبسط أساسيات الاحترام الدبلوماسي، خصوصا وقد تخطت أهدافه الاستثمار الجشع الذي اعتبره أمرا مفروغا منه. تبنى ترامب مسلكا غاب عن القادة الخمس وهو توجه بديل عن المساعدات التنموية وتمويل الأيدولوجيات الأمريكية التقليدية لفرضها على دول العالم مثل الديموقراطية وحماية ممارسة الحقوق السياسية وتمكين المرأة والشباب ورعاية ملفات حقوق الإنسان، إلى التركيز على التخلص من عبئ المهاجرين والذي ألمح له في كلمته الترحيبية بهم، الملف الذي كان أحد أهم أسباب نجاح حملته الانتخابية. ومع تناسي الأفارقة لهذه المؤشرات والتماهي مع سياقات الإهانة ومبادلة كل طرف للطرف الأخر بالجهل، فاجئهم ترامب بمستوى من العجرفة والاستعلاء غير مسبوقين عندما أجبرهم على الإنصات إليه دون إعطائهم فرصة متكافئة في الحديث طالبا من كل رئيس تسمية نفسه وبلده فقط دون الحديث عن شيء أخر، متعللا بجدوله المشغول.
ظهر قمة العجز المعرفي والثقافي في اندهاشه من مستوى إجادة رئيس ليبيريا للغة الإنجليزية وسؤاله عن مكان تلقيه دروسا في اللغة، الأمر الذي أصاب جوزيف بوكاي رئيس ليبيريا بالإحراج ولم يجب على سؤاله الساذج، علما بإن ليبيريا هي صنيعة أمريكا في القارة الإفريقية في 1822 كمستعمرة للعبيد الذين أعتقتهم أمريكا فقاموا بتأسيس ليبيريا. اللفظ المشتق من "Liberty" أو الحرية ولغتها الأم هي الإنجليزية بطبيعة الحال، وعاصمتها مونروفيا نسبة إلى الرئيس الأمريكي "جيمس مونرو"، الذي يدعي ترامب تبني مبادئه في الحرية والاستقلالية، حيث تُدرس تجربة إنشاء ليبيريا على إنها إحدى العلامات المضيئة للحرية في التاريخ الأمريكي ونموذج حي على عدم تورطها في الاستعمار القديم.
أما قمة التغافل فكانت من نصيب الأفارقة عندما فوجئوا بعرض ترامب الوحيد الذي قدم لهم فيه بصيصا من الأدب الدبلوماسي الذي يطلق عليه في العامية المصرية " أدب القرود"، والذي كان مشمولا بشرط حتمي النفاذ وهو قبولهم استقبال المرحلين من المهاجرين بالولايات المتحدة كأولوية للدخول في صفقات مربحة مع الولايات المتحدة. وكان هذا هو الملف الوحيد الذي سهر دونالد ترامب على حفظه عن ظهر قلب حيث ذَكْرَ موريتانيا في الاجتماع باتفاقها مع الإتحاد الأوروبي في 2024 الذي يقضي بوجوب اشتراكها في مكافحة الهجرة الجماعية في مقابل حصولها على استثمارات بقيمة 600 مليون دولار. وحذر الجابون التي لم تُوافق على برامج استقبال المهاجرين ضمن خطط إعادة التوطين مثل تلك التي تنفذها المفوضية السامية للاجئين أو من خلال اتفاقيات استقبال على غرار "Relocation Program". من رفض التوقيع مع الولايات المتحدة الأمريكية على اتفاقيات "الدول الثالثة الآمنة". ولم يكتفي بهذا بل إنه لوح للسنغال بالدعم الذي تلقته من الإتحاد الأوروبي على شكل مشروعات تنموية قدرت بـ 235 مليون دولار نظير نفس الهدف، واعدا إياها بإمكانية مضاعفة هذه الأرقام في عمليات تجارية مفتوحة، بشرط ألا تعيد تلك الدول المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية مرة أخرى!
كان على القادة الأفارقة مراجعة تاريخ دونالد ترامب القديم معهم وتتبع تاريخه الحديث جدا والإعداد الجيد لهكذا لقاء محفوفا بالمشروطية السياسية والإهانة خصوصا وأن تقارير مسربة كانت قد كشفت في مطلع الشهر قيام الولايات المتحدة بترحيل ثمانية رجال احتجزتهم إدارة الهجرة الأمريكية من تكساس، وأرسلتهم إلى جيبوتي بمعسكر ليمونييه، ثم رحّلوا إلى جنوب السودان، بلد لا تربطهم به صلة تذكر. هذا الترحيل تم قبل صدور حكم المحكمة العليا رسميًا في 4 يوليو، الذي أجاز الترحيل لدولة ثالثة بشرط إبلاغ المرحلين مسبقًا، مما يكشف انتهاكًا قانونيًا ودعمًا لسياسة ترامب للترحيل الجماعي. من جانبها أكدت جنوب السودان استقبال المرحلين، لكن تفاصيل الاتفاق بين البلدين غامضة، وقد تكون مرتبطة بصفقات سياسية أو اقتصادية، كتسهيل تصدير النفط أو الحفاظ على الوجود الأمريكي، وكذلك فعلت دولا إفريقية مثل إسواتيني ورواندا. وبالرغم من أن الدول الخمس خرجوا نافيين الشرط الأمريكي، إلا إنه تزامن مع إعلان نيجيريا عن تعرضها لضغوطا أمريكية كبيرة لقبول المرحلين من المهاجرين ورفضها البات لهذا العنف السياسي.
ومما لا شك فيه وبناء على المعطيات السابقة ستستمر إدارة ترامب في ممارسة مزيدا من الضغوط على الدول الأفريقية لكى يقبلوا الدخول في اتفاقيات ""الدول الثالثة الآمنة" للتخلص من المهاجرين حتى وإن واجهت مقاومة شديدة من البلدان الأفريقية. على الصعيد الآخر، لا توجد بوادر إعلان موقف موحد من الدول الأفريقية ضد هذه الضغوط الترامبية التي تعج بالعنصرية البغيضة والمشروطية القاتمة.