في مثل هذه الأيام منذ خمسة أعوام، رحل عن عالمنا الفريق محمد العصار، وزير الدولة الأسبق للإنتاج الحربي، بعد مسيرة وطنية حافلة ترك خلالها بصمات لا تنسي في أدق مراحل تاريخ مصر الحديث.
رحل القائد الذي لم يكن فقط أحد رموز المؤسسة العسكرية، بل كان عقلًا استراتيجيًا ومفاوضًا بارعًا وركنًا أساسيًا في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، حيث تولى مسؤولية الملفات السياسية والإعلامية في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتحدث باسم الدولة في لحظات فارقة شهدت تناحر واسع بين تيارات متعددة اختلفوا في أغلب القضايا واتفقوا علي تقدير العصار.
لازلت أتذكر ما كتبته في يوم وفاته عن "مهندس الصفقات العسكرية"، واليوم أتذكره ك " حكيم المجلس العسكري"، القائد الذي جمع بين الحكمة والصرامة والانجاز، و ترك بصمة في كل موقع تولاه.
ورغم كل هذه المسؤوليات، كان بالنسبة لي أكثر من مجرد مسؤول أو وزير… كان الأب والمُلهم الذي تعلمت منه كيف يمكن للصمت أن يكون أحياناً أقوي من كل الكلام .
عرفت العصار عن قرب كصحفية تجتهد لتغطية الملف السياسي و العسكري ، وتناقشنا في ملفات معقدة، لكنه منحني ما هو أعمق من السبق الصحفي؛ منحني الثقة.
وثق فيّ، وخصّني بحوارات حصرية نادرة، كانت بالنسبة لي جلسات وعي حقيقية، ودروسًا في حب الوطن والعمل بصمت.
وفي محطة مهمة من مسيرتي، شرفت بانفراد أول حوار صحفي مع العصار لجريدة الأهرام و زيارة عزيزة للمؤسسة توقف طويلا خلالها أمام مكتب هيكل مثنياً علي فكره وأثره ، بل و حققت ما لم يحلم به صحفي حينها، بموافقته علي عقد ندوة بمؤسسة الأهرام طرحنا فيها كل شواغلنا ، وشارك فيها بنفس الروح التي عرفته بها دائمًا: مثقفًا، حازمًا، وطنيًا حتى النخاع، يرفض التلميع ويبتسم ردا علي المجاملة في تواضع.
هكذا هو العصار، لم يكن كثير الكلام، لكن كلماته كانت تحمل المعنى بعمق ودقة،يتحدث بهدوء، يشرح ويوضح، ويُخاطب مختلف الفئات بعقل كبير وصدرٍ رحب.
الفريق العصار، الحاصل على بكالوريوس الهندسة من الكلية الفنية العسكرية ودرجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية، شغل عددًا من المواقع القيادية داخل القوات المسلحة، أبرزها مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح، وشارك في مفاوضات تسليح الجيش المصري لعقود طويلة، وكان مسؤولًا عن العلاقات العسكرية مع دول العالم.
ومن المحطات البارزة في مسيرته، دوره الكبير في إعادة التعاون العسكري بين مصر والولايات المتحدة بعد فترة من الجمود ، وتمكنه من التوصل لاتفاقات مهمة لتوفير قطع غيار طائرات الأباتشي المقاتلة، التي تمثل أحد ركائز القوة الجوية المصرية. لم تكن هذه مجرد صفقة، بل تأكيد على قدرة مصر على إدارة علاقاتها الدولية بثقة وندية، وكان العصار هو مهندس هذا المسار بعقله الهادئ ورؤيته الاستراتيجية.
و في عام 2015، عندما تولى وزارة الدولة للإنتاج الحربي، قاد خلالها عملية تطوير شاملة للمصانع الحربية، ووسّع من نطاق دورها لتشمل دعم خطط التنمية الوطنية، مؤكداً دائمًا أن الإنتاج الحربي ليس فقط للسلاح، بل أيضًا لبناء الوطن.
الحقيقة ان رحيل العصار قد ترك فراغًا كبيرًا في مؤسسات الدولة، لكنه بالنسبة لي كان فقدانًا إنسانيًا عميقًا لداعم مؤثر و قيمة كبيرة فقدت فيه الأب الروحي والمُلهم، والصوت الذي كثيرًا ما استندت إليه لأفهم، لا لأكتب فقط.
في ذكراه…أرسل لروحه دعوات وسلام من ابنة ممتنة لوالد عظيم .