في بلاد تولد فيها المواهب كما تُولد الأحلام، ووسط موجات عاتية من تغيّر ملامح الذوق وتبدّل خرائط النجومية، وُلد صوت اختار أن يسابق الزمن لا أن يصادقه، وأن يتحدى السكون لا أن يسكنه. أربعون عامًا مرّت على انطلاقة عمرو دياب، لم يكن فيها مجرد مطرب يتلو أغنيات على وقع لحن جميل، بل كان شاهدًا فنّيًا على تحوّلات مجتمع، ومؤرّخًا عاطفيًا لمشاعر جيل بأكمله.
في حضرة عمرو دياب، لا نعد السنين.. بل نستعرض أعمارنا.منذ أن صدح صوته أول مرة، بدا كما لو أنه لا يغني فقط، بل يفتح نوافذ القلب المغلقة على مصراعيها، ويعبر بنا الزمان والمكان كما تعبر الريح بين أغصان الذكرى.
أربعة عقود من الغناء، لكنها ليست مجرد سنوات في تقويم الزمن، بل محطات في سيرة وجدانية عشناها معه، وبه.كان الصوت، وكان الملامح، وكان الإيقاع الذي نتماهى معه في أفراحنا وخيباتنا، في اكتشافات الحب الأولى، وفي انكسارات العشق الأخيرة. كان الشاهد والرفيق والمرايا التي رأينا فيها أنفسنا، دون أن نتعب من التأمل أو التكرار.
•••
من بوابة المدينة الساحلية المطلة على زرقة المتوسط — بورسعيد، تلك الندبة الجميلة على كتف الجغرافيا — خرج عمرو حاملاً صوته كجواز سفر، ونغماته كبوصلة. لم يختصر الطريق، بل مشى مشواراً طويلاً من الاجتهاد والتجريب والتجديد.
لم يكن تكرارًا لأحد، بل كان اختراعًا مستمرًا لنفسه.
عمرو دياب لم يكن مجرد مطرب ناجح، بل مشروع فني قائم بذاته.لا تسعفه التصنيفات، ولا تُحدّه الجغرافيا، تجد في موسيقاه الحيوية الأوروبية، والروح الشرقية، والنبض المصري الخالص.
في كل جيل، تجد من يقول: “هذا صوتنا”.
وفي كل زمن، تُولد قصة حب جديدة على خلفية أغنية له.هكذا صار عمرو دياب ليس فقط صانعًا للغناء، بل صانعًا للذاكرة العاطفية عند المصريين.
لم يكن عابرًا بين الأجيال، بل كان الرابط الخفي بينها. أغنياته لم تُقسّمنا إلى مراحل، بل جمعتنا داخل ذاكرة واحدة، نُسميها تجاوزًا: “زمن عمرو دياب”.
صوته الذي خرج من رحم التحدى ليسكن القلوب، لم يعرف النمطية، بل شقّ طريقه كمن يحفر مجرى نهر جديد، وترك خلفه جوقة من المقلّدين والمندهشين والمراهنين على سقوط لم يحدث. من “ميال” إلى “حبيبي يا نور العين”، ومن “تملي معاك” إلى “معدى الناس”، نسج الهضبة سردية موسيقية لا تتقاطع فيها الأجيال بل تتعانق، ولا يصطدم فيها الجديد بالقديم، بل يُعاد تركيبه في قالب عصري يليق برجل يتقن فن التجدد كما يتقن فن الغناء.
•••
لم يكن مشروع عمرو دياب مجرد رحلة صوتية، بل كان مشروعًا حضاريًا لنقل الأغنية المصرية من خانة “المحلي العالق في الزمن” إلى فضاء “العالمي المعاصر”، دون أن يفقد هويته أو يتنازل عن مصريته. فقد غنّى الحب كما لم يغنّه أحد، واستعاد الفقد بنبرة من عاشه، وتحدّث عن الاشتياق وكأنه اختراع شخصي. وكان قادرًا، بأغنية واحدة، أن يعيد تشكيل ذاكرة عاطفية كاملة لجمهور لا يعرف بعضه بعضًا، لكنه يتلاقى في صوته كأنه موعد.
لقد مرّ عمرو دياب بتحديات فنية وإنتاجية وسوقية كانت كفيلة بإزاحة أي اسم مهما علا، لكنه ظلّ متجاوزًا، لا بالثبات بل بالحركة، لا بالمكابرة بل بالحكمة، فالمعاصرة عنده ليست ترفًا، بل التزامًا تجاه جمهوره وتجاه فنه. اختار أن يكون نجم كل عصر، لا أسير عصر واحد، فطوّر لغته الموسيقية، خفّف أحمال الكلمات دون أن يفرّط في عمقها، وجرّب في الإيقاع دون أن يضيع.
وفي عصر تتآكل فيه النجومية سريعًا، وتُستبدل الأصوات كما تُستبدل القمصان، ظلّ هو الثابت في معادلة متغيّرة. لأنه ببساطة لم يراهن على لحظة واحدة، بل على الزمن كلّه. لم يعش على أمجاد أغنية، بل بنى أرشيفًا يتحدّث عن نفسه: بانوراما من العاطفة، والنبض، والتوق، والصور السمعية التي تحفظها الذاكرة كأنها عطر قديم.
منذ بداياته الأولى، لم يكن مجرد صوت جديد يطرق باب الساحة، بل كان وعدًا فنيًا بحضورٍ لا يشبه أحدًا، ومشروعًا غنائيًا اختار أن يكون مرآة للزمن لا ظله، وضميرًا عاطفيًا لجيل لم يجد لغته إلا في أغانيه.
نجح عمرو دياب، لأنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن الفن لا يُورث، وأن ما يُؤخذ بالتكرار يضيع، فاختار طريقًا أطول: أن يبني مشروعًا. مشروعه لم يكن مجرد أرشيف من الألبومات، بل سردية كاملة لروح مصر الحديثة: صوت المدينة، وصدى البحر، ولهجة الحنين، ومزاج الشباب، ورائحة الصيف، وذاكرة العشاق.
كأن أغانيه لا تُسمع فقط، بل تُحفظ في الوجدان كأحداث شخصية. كل جيل له “أغنيته” منه، وكل مرحلة تحمل توقيع الهضبة بشكلٍ ما.لم يركن إلى مجده، بل وسّعه. وقف على خشبات العالم، وغنّى بالمصرية كما لو أنها لغة الكون.
وحين انكمشت الأغنية العربية في محليتها، كان هو الوحيد الذي جعل منها جواز سفر إلى العالمية. لم يُغادر هويته، بل طوّعها، جعلها مرنة، راقصة، صافية، حتى بدا وكأنه يكتب قاموسًا جديدًا للموسيقى الشعبية الراقية: بلا ادعاء، بلا صخب، فقط بخيط رفيع من الذكاء والصبر والشغف.
اليوم، بعد أربعين عامًا من الصوت والصورة، من الحب والألم، من الذكرى والتجدد، يبدو عمرو دياب ليس مجرد إسم فني فقط، بل كعلامة فارقة في الوعي الجمعي المصري والعربي. رجل استطاع أن يكون ترمومترًا للعاطفة، وبوصلة للذوق، وحالة فنية يصعب استنساخها، لأن ما يُبنى على الصدق لا يُعاد، وما يُصاغ من الروح لا يُقلّد.
لم ينتهِ مشروع عمرو دياب، لأنه لم يكن يومًا مشروع أغنية… بل كان مشروع عُمر.
بعد كل هذا العمر يخرج علينا ليغنى لنا ويخبرنا اننا يادوب "ابدتينا"!