عاجل

في زمن أصبحت فيه كلمة الإنسانية مجرد شعار أجوف يُرفع في المؤتمرات الدولية ويُنسى عند أول اختبار حقيقي، تتكشف أمام أعيننا مأساة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر؛

في قطاع غزة، حيث يُقتل الجائعون وهم يبحثون عن كسرة خبز، وحيث تتحول مراكز المساعدات الإنسانية إلى مسالخ بشرية، نشهد انهياراً كاملاً للضمير الإنساني والقانون الدولي معاً.

كل يوم يمر، والعالم يستيقظ على أخبار مقتل عشرات الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الإنسانية، كل يوم تتكرر نفس المأساة: أطفال جائعون يسقطون مضرجين بدمائهم وهم يحملون أكياس الدقيق، أمهات مفجوعات يحتضن أطفالهن القتلى قرب شاحنات المساعدات، شيوخ عجزة يلفظون أنفاسهم الأخيرة وهم يحاولون الوصول إلى قطرة ماء أو كسرة خبز.

هذه ليست مجرد أرقام إحصائية باردة في تقارير إخبارية، بل هي قصص إنسانية مؤلمة لأشخاص حقيقيين لهم أسماء وأحلام وعائلات.. كل رقم في هذه الإحصائيات المرعبة يمثل حياة إنسانية أُزهقت بوحشية لا تُصدق، يمثل مستقبلاً مُحطماً وأملاً مدفوناً تحت الأنقاض الدموية.

القانون الدولي يصرخ والعالم أصم

من منظور القانون الدولي، لا خلاف علي أن ما يحدث في غزة يشكل انتهاكاً صارخاً لكل المواثيق والاتفاقيات التي وضعتها البشرية لحماية المدنيين في أوقات النزاعات، واستخدام التجويع كسلاح حرب محظور تماماً بموجب المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، والتي تنص بوضوح على حظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.

كما أن قتل المدنيين أثناء بحثهم عن المساعدات الإنسانية يشكل جريمة حرب واضحة بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. والأخطر من ذلك، أن هذه الممارسات الوحشية تحقق تعريف جريمة الإبادة الجماعية وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، خاصة فيما يتعلق بـ إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي.

لكن ما فائدة القانون إذا لم يكن هناك من يطبقه؟ ما فائدة المحاكم الدولية إذا كانت تقف عاجزة أمام الجرائم الواضحة؟ ما فائدة المواثيق والاتفاقيات إذا كانت تُطبق بانتقائية حسب هوية الضحية والجلاد؟

صمت العرب... خذلان تاريخي

والأمر الأكثر إيلاماً في هذه المأساة هو الصمت العربي المخزي.. دول عربية تملك المليارات تقف متفرجة على مذبحة يومية لإخوانها الفلسطينيين، تكتفي بإصدار بيانات الإدانة الجوفاء والاستنكار الشكلي بينما تستمر التجارة والعلاقات مع القتلة وكأن شيئاً لم يحدث.

أين العمق الاستراتيجي العربي؟ أين الأموال العربية الطائلة؟ أين القوة العربية المزعومة؟ أين الكرامة العربية؟ كل هذا يبدو وكأنه ذاب في مواجهة المصالح الضيقة والحسابات السياسية الأنانية.. إن هذا الصمت العربي ليس مجرد خذلان سياسي، بل هو تواطؤ أخلاقي مع الجريمة، وشراكة صامتة في القتل اليومي للأبرياء.

المجتمع الدولي... شريك في الجريمة

أما المجتمع الدولي، فحدث ولا حرج عن نفاقه وازدواجية معاييره.. نفس الدول التي تتحرك بسرعة البرق لحماية حقوق الإنسان في دول أخرى، تقف صامتة ومتواطئة عندما يكون الضحايا فلسطينيين. نفس المنظمات الدولية التي تصدر قرارات صارمة ضد انتهاكات أقل خطورة في مناطق أخرى، تكتفي بالتصريحات الدبلوماسية الفارغة عندما يتعلق الأمر بغزة.

هذا النفاق الدولي المفضوح يكشف عن حقيقة مؤلمة: أن حياة البشر تُقيَّم بمعايير مختلفة حسب انتمائهم وجنسيتهم ودينهم.. إن هذا التمييز العنصري المقيت في تطبيق القانون الدولي يهدم أسس العدالة ويقوض مصداقية النظام الدولي برمته.

مسؤولية الجميع... لا عذر لأحد

في هذه المأساة الإنسانية المروعة، لا يوجد أبرياء في المجتمع الدولي، فكل دولة صامتة مسؤولة، كل منظمة دولية متقاعسة شريكة، المسؤولية تقع على الجميع دون استثناء؛

الولايات المتحدة التي تقدم الدعم غير المحدود لإسرائيل بالسلاح والحماية السياسية للقتلة مسؤولة عن كل قطرة دم تُسفك.. الاتحاد الأوروبي الذي يتاجر مع المجرمين ويغض الطرف عن جرائمهم مسؤول عن استمرار المأساة.. الدول العربية التي تصمت وتتفرج مسؤولة عن خذلان إخوانها.. الأمم المتحدة التي تعجز عن حماية من أُنشئت لحمايتهم مسؤولة عن فشلها المدوي.

وقف إطلاق النار... ضرورة إنسانية عاجلة

إن الحديث عن حلول سياسية طويلة المدى أو مفاوضات مطولة، بينما الأطفال يُقتلون يومياً وهم يبحثون عن الطعام، هو ترف لا يمكن تحمله.. المطلوب الآن، وقبل أي شيء آخر، هو وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، ووقف فوري لسياسة التجويع المنهجي، وفتح ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية.

لا يمكن لأي إنسان سوي أن يشترط وقف قتل الأطفال الجائعين بتحقيق مكاسب سياسية، لا يمكن لأي ضمير حي أن يساوم على حياة المدنيين الأبرياء، إن وقف إطلاق النار ليس منحة أو تنازلاً، بل هو التزام قانوني وأخلاقي لا يقبل التأجيل أو المساومة.

نداء أخير قبل فوات الأوان

إن ما نشهده اليوم في غزة ليس مجرد كارثة إنسانية عابرة، بل هو اختبار حقيقي لمستقبل الحضارة الإنسانية، إما أن نقف جميعاً ضد هذه الوحشية ونوقفها فوراً، وإما أن نقبل بعالم يحكمه قانون الغاب والقوة الغاشمة.

إن صمتنا اليوم يعني موافقتنا على تدمير كل ما بنته البشرية من قيم ومبادئ.. إن تقاعسنا الآن يعني أننا نرضى بعالم تُقتل فيه الأطفال وهم يبحثون عن الطعام، وتُستخدم فيه المساعدات الإنسانية كطُعم لاستدراج الضحايا.

هذا نداء أخير لكل ضمير حي في هذا العالم، نداء لكل من يؤمن بالخير والعدالة، نداء لكل من لا يزال يحمل في قلبه ذرة من الإنسانية.. الوقت ينفد، والضحايا يتساقطون، والعالم ينظر فماذا ستختارون؟ الوقوف مع الحق أم الصمت المتواطئ؟ إنقاذ الأطفال أم التضامن مع القتلة؟ الدفاع عن الإنسانية أم القبول بالهمجية؟

الاختيار بين أيديكم، والتاريخ يراقب، والضمير يشهد، والأطفال ينتظرون... فماذا أنتم فاعلون؟

تم نسخ الرابط