عاجل

نستكمل في هذا المقال العوامل التي يمكن أن تسهم في نجاح الحوار بين أتباع الأديان، وذلك على النحو التالي:  
خامسًا التعامل بموضوعية ومسئولية مع الواقع: فتسارع الأحداث وتشابكها في عالمنا المعاصر يفرضان على الشعوب كافة أن تنتهج الحوار والتعاون كخيار حتمي. فلم تعد الأزمات محلية الأثر، بل باتت تداعياتها تتجاوز الحدود، لتطال مناطق متعددة حول العالم. ولنا في العقد الأخير أمثلة واضحة على ذلك؛ فالأزمة السورية، على سبيل المثال، لم تقتصر تداعياتها على دول الجوار أو القارة الآسيوية، بل أثرت على قضية اللجوء عالميًا، محدثة أزمة إنسانية شاملة. وكذلك مأساة الروهينجا في ميانمار التي انعكست آثارها على بنغلاديش ودول أخرى. إلا أن الأزمة الأكثر شمولًا وتأثيرًا على الإنسانية جمعاء هي أزمة التغير المناخي، التي لا تستثني منطقة أو شعبًا. هذه الأزمة تتطلب حوارًا دينيًا عالميًا بين أتباع الأديان كافة، ليس فقط لفهم أبعادها، بل للمساهمة الجادة في معالجتها. بل يمكن أن تتحول هذه القضية إلى مشروع إنساني عالمي تتوحد حوله شعوب الأرض من مختلف الأديان والمذاهب، شريطة أن ينجح علماء الأديان في إيقاظ الوعي الديني والمسئولية لدى الشعوب، وأن يتجاوز صناع القرار الدوليون منطق البراغماتية الضيقة التي ألحقت أضرارًا جسيمة بالمناخ وكوكب الأرض.
سادسًا مكافحة الفكر المتطرف في الشرق والغرب: فلا شك أن التطرف يمثل أصعب العوائق أمام أي تجربة حوارية بين أتباع الأديان، ولدينا في الشرق متطرفون منعزلون عن قضايا الكوكب الذي نعيش عليه، يحرفون التراث، ويكفرون المختلف عنهم حتى من أتباع الدين الذي يعتنقوه. وهؤلاء يؤمنون بحتمية الصدام مع المختلف، ولا يؤمنون بأي تجربة حوارية بين أتباع الأديان إلا إن كانت مناظرة تنتهي بمنتصرٍ ومهزوم، ولا يعترفون بالقواسم المشتركة بين عناصر الأمم المتعددة ثقافيًا. 
وفي المقابل، تتنامى في الغرب تيارات راديكالية تُبدي عداءً صريحًا للحوار بين الإسلام والمسيحية، وتسعى لإفشاله في كل مراحله. وقد وصلت هذه التيارات إلى مواقع مؤثرة داخل بعض الحكومات الغربية، وتمتلك منابر إعلامية قوية تركز على تضخيم الصور السلبية عن الإسلام، متجاهلة عن عمد الأصوات المعتدلة التي تسعى لبيان جوهر الدين الإسلامي، ومبادئه العظيمة التي تدعو إلى التسامح والتعايش السلمي والحوار البنّاء. 
سابعًا إبراز النماذج المؤمنة بالحوار في الإسلام والمسيحية: من الأمور المشجعة أن الأديان السماوية تزخر بنماذج مشرّفة تؤمن بالحوار وتدعو إليه، وهي نماذج لها تأثير عميق، خاصة في أوساط الشباب، لما تمثله من قدوة في الانفتاح وقبول الآخر. التركيز على هذه النماذج يُعد خطوة جوهرية في تعزيز ثقافة الحوار والتعايش المشترك.
فعلى الصعيد المسيحي، يبرز عدد من الشخصيات الرفيعة التي عبّرت بوضوح عن تقديرها للإسلام وإسهاماته الحضارية. من أبرزها الملك تشارلز، الذي قال في محاضرة له عام 1993: "إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا في جميع مجالات البحث الإنساني، وقد ساهم في إنشاء أوروبا المعاصرة، إنه جزء من تراثنا وليس شيئًا منفصلًا عنه". كذلك "روبين كوك"، وزير الخارجية البريطاني الأسبق الذي قال في عام 1998: "إن جذور ثقافتنا ليست يونانية أو رومانية فقط، بل إسلامية أيضًا. إن ثقافتنا مدينة للإسلام بدين يجدر بالغرب ألا ينساه، إذ إن كثيرًا من أسس حضارتنا يعود الفضل فيها إلى العالم الإسلامي". 
ومن علماء الدين المسيحي الذين آمنوا بالحوار وسعوا لتعزيزه، "الأب بيوس الثاني عشر" المتوفى في عام 1958م، وكان منفتحًا على العالم الإسلامي، وشهدت مراسم تشيعه وفودًا من عالمنا العربي والإسلامي. خلفه الأب "يوحنا الثالث والعشرين" الذي كان على معرفة جيدة بالإسلام والمسلمين، وعمل في تركيا والقدس، وعندما تولى البابوية أصدر وثيقة "في حاضرات أيامنا"، واشتهر في العالم بلقب "بابا بونو" أي البابا الطيب. وكذلك أيضًا البابا "يوحنا بوليس الثاني" المعروف بجهوده في الانفتاح على العالم العربي، والبابا فرانسيس وعلاقاته مع الأزهر الشريف وإمامه الأكبر، وحضوره مؤتمر السلام الذي عُقد في القاهرة عاصمة الشرق في عام 2017. 
وفي المقابل، يزخر العالم الإسلامي بشخصيات رائدة في ميدان الحوار بين أتباع الأديان. من بينهم الدكتور "علي السمان"، مستشار الإمام الأكبر الشيخ "محمد سيد طنطاوي" – رحمهما الله –، والذي امتاز بثقافته الواسعة وجهوده المتواصلة في ترسيخ قيمة الحوار، وكذلك الدكتور "محمود حمدي زقزوق" – رحمه الله – رئيس مركز الأزهر للحوار، الذي كان يؤمن بأن الأرض أشبه بسفينة واحدة، وعلى جميع ركابها أن يتعاونوا في حمايتها وإلا غرقوا جميعًا.
أما فضيلة الإمام الأكبر الدكتور "أحمد الطيب" – حفظه الله – فقد قدّم نموذجًا حيًا في العمل المؤسسي من أجل الحوار، إذ أطلق مبادرة بيت العائلة المصرية لتعزيز التعايش بين عنصري الأمة المصرية، كما بذل جهودًا كبيرة في الانفتاح على الفاتيكان وكنيسة كانتربري ومركز الكنائس العالمي والمراكز العالمية للحوار، بالإضافة إلى دوره المحوري في ترسيخ الحوار داخل العالم الإسلامي ذاته. 
صفوة القول: إن في مواجهة التطرف، وإبراز النماذج المضيئة في مختلف الأديان، والتعامل بموضوعية مع الواقع، دعائم أساسية لترسيخ ثقافة الحوار وتعزيز فرص التفاهم المشترك.

تم نسخ الرابط