نتنياهو ما بعد حرب إيران وإسرائيل: "انتصار" في مفترق طرق

لم يمر الكثير من الوقت بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، في 24 يونيو 2025، حتى بدأت إسرائيل في التأكيد على استمرار الحرب ضد طهران بهدف الحفاظ على ما تسميه "الانتصار" الذي حققته الحرب والمتمثل، وفقاً للخطاب الإسرائيلي، في حرية الحركة في الأجواء الإيرانية. تعهد ظهر في إعلان وزير الدفاع يسرائيل كاتس إصدار تعليمات للجيش بإعداد خطة ضد إيران تتضمن "الحفاظ على التفوق الجوي لإسرائيل، ومنع التطوير النووي والصاروخي" والرد على ما أسماه "الدعم الإيراني للنشاط الإرهابي".
وفي حين مثلت الحرب التي اختار لها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اسماً توراتياً محملاً بالتفسيرات الدينية وهو "الأسد الصاعد"، اختارت إيران الاستمرار على اسم العمليات التي قامت بها ضد تل أبيب بداية من الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في سوريا في الأول من أبريل 2024، والتي أطلقت عليها آنذاك اسم "الوعد الصادق" بحيث حملت الحرب التي بدأتها تل أبيب في 13 يونيو الجاري (2025) اسم "الوعد الصادق ٣".
ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بينما يزداد التركيز على توجه إسرائيل القائم على توظيف الخطاب الديني في حروبها المختلفة، سواء ضد قطاع غزة أو فيما يخص الأطراف الإقليمية الأخرى، تزداد التفسيرات الإسرائيلية الداخلية التي ترى الحرب بوصفها أداة من أدوات نتنياهو السياسية والتي تحضر في المشهد من أجل مواجهة أزماته الداخلية وخاصة منذ حرب غزة الخامسة (أكتوبر 2023)، وما شهدته إسرائيل من فشل في مواجهة مخططات حماس و"طوفان الأقصى".
مع تراجع صورة نتنياهو بوصفه "رجل الأمن" القادر على حماية أمن إسرائيل أكثر من غيره، والشعور بفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من حرب غزة سواء على المستوى الجزئي المرتبط بتحرير أو إعادة الأسرى والرهائن، أو على الصعيد العسكري القائم على القضاء على حركة حماس، أو على صعيد المشهد الكلي الخاص بتحقيق النصر المطلق، قدمت إيران بوصفها "الحرب" القادرة على تغيير الموازين السياسية، وإعادة تقديم نتنياهو ليس بوصفه "رجل الأمن" فقط ولكن أيضاً بوصفه الشخص القادر على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفقاً للخطاب الذي تبناه مع عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في سبتمبر 2024، والتي أطلق عليها اسم عملية "نظام جديد". أهمية ظهرت واضحة في تصريحات نتنياهو في 17 يونيو الجاري، وخلال الحرب مع إيران، والتي أشار فيها إلى أن قرار اغتيال نصر الله هو "أهم قرار اتخذه خلال الحرب"، مؤكداً دور هذا القرار في "فتح الطريق نحو ضرب إيران بشكل مباشر".
وفي حين لم تؤد العمليات الإسرائيلية المستمرة ضد لبنان وسوريا، أو الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي في غزة إلى ترسيخ صورة الهيمنة الإقليمية المتصورة، فإن العودة إلى هدف نتنياهو المستمر والمتمثل في استهداف إيران لم يعبر فقط عن الرغبة في تحقيق حلم قديم، ولكنه مثل لحظة رفع أو إخراج الورقة القادرة على تغيير المشهد الداخلي، وإعادة نتنياهو إلى الواجهة، وربما تجاوز الخسائر المتراكمة في المشهد الإسرائيلي المأزوم على كافة الأصعدة في ظل حرب غزة الخامسة التي تحولت في الخطاب الإسرائيلي إلى "مستنقع" ودليل "فشل" وحرب بدون هدف بوصفها في التفسير النهائي، وفقاً للقوى المعارضة لها، حرباً لا ينتج عنها إلا المزيد من الخسائر المادية والعسكرية بما فيها البشرية، دون استراتيجية خروج أو دليل انتصار واضح.
نتنياهو و"الأسد الصاعد": نجاح مؤقت وأزمات ممتدة
وسط الإشكاليات المختلفة التي تواجه نتنياهو، سواء على صعيد المحاكمة الجارية في قضايا الفساد المختلفة، أو رفض قوى المعارضة وعائلات الأسرى والرهائن لسياسات الحكومة، مثلت طهران اللحظة الفارقة القادرة، في رؤية نتنياهو، على تغيير المشهد وإعلان "صعود الأسد".
تغير ظهر واضحاً في استعادة لحظة توافق ودعم لم يشهدها منذ "طوفان الأقصى" إلا في لحظات مفصلية مثل اغتيال حسن نصر الله، والاستيلاء على جبل الشيخ في سوريا. "انتصارات صغيرة" استعادها نتنياهو بمجرد شن الحرب على إيران ما أدى بدوره إلى الحصول على دعم وتأييد العديد من الشخصيات المعارضة، كما يتصور في لحظة حرب مع طرف قدم لسنوات في الخطاب الإسرائيلي بوصفه "العدو".
وبعيداً عن دعم قوى المعارضة، بما فيها شخصيات مثل زعيم المعارضة ورئيس الوزراء الأسبق يائير لبيد ووزير الدفاع الأسبق بيني غانتس، تمت الإشارة بشكل خاص إلى تأييد الصحفي الإسرائيلي اليساري في هآرتس جدعون ليفي، والذي أشار في بداية مقال له عن "الفظائع" التي ترتكب في قطاع غزة إلى تأييد قدرة نتنياهو على معرفة "أين ومتى ينهي الحرب مع إيران"، ومن خلال المقارنة بين حربي غزة وإيران، أشار ليفي إلى ما أثبته نتنياهو في حرب "خطيرة لا مثيل لها" من قدرة على القيادة واتخاذ القرار، ما يرتب، وفقاً له، ضرورة "التعبير عن تقديرنا لمن أدى لنهايتها"، في إشارة للحرب ضد إيران.
لم يتوقف دعم نتنياهو، أو مكاسبه السياسية عند هذا الحد، في وقت أشارت فيه كتابات أخرى إلى وقوف نتنياهو على القمة دون منافسة، وتحوله في الخطاب الشعبي إلى صورة "المخلص". صورة ظهرت في استطلاعات الرأي العام التي استعاد فيها نتنياهو وحزبه الليكود الصعود بعد فترة طويلة من التراجع. وأظهر استطلاع للرأي العام أجرى بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار يوم الثلاثاء 24 يونيو الجاري تحقيق نتنياهو والليكود ارتفاعاً طفيفاً في الشعبية في ظل ما اعتبر "نجاحاً باهراً"، لكنه لم يصل إلى الحصول على أغلبية تسمح للائتلاف الحاكم بتشكيل الحكومة. إذ حصل ائتلاف نتنياهو على 49 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد الكنيست البالغ 120مقعداً، وحصلت أحزاب المعارضة على 61 مقعداً، والأحزاب العربية على 10مقاعد في تطور مهم من شأنه حال تحققه إعطاء تلك الأحزاب قدرة على التأثير على المشهد مقارنة بالفترة السابقة.
على مستوى حزب الليكود، فقد حصل على 26 مقعداً، بزيادة 4 مقاعد عن استطلاعات الرأي العام التي أجريت قبل الحرب، في حين حصل رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، الذي مثل منافساً حقيقياً لنتنياهو في العديد من استطلاعات الرأي التالية لحرب غزة الخامسة، على 24 مقعداً، وحزب اليسار "الديمقراطيون" على 12 مقعداً. وحصل كل من أحزاب هناك مستقبل "يش عتيد" بزعامة لبيد، و"شاس" الحريدي وإسرائيل بيتنا "يسرائيل بيتينو" المتطرف على 9 مقاعد لكل منها. وفي حين حصل حزب القوة اليهودية "عوتسما يهوديت" بزعامة وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير على 6 مقاعد، فشل حزب الصهيونية الدينية بزعامة وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سوتريتش في الحصول على نسبة الحسم اللازمة لدخول الكنيست. وفيما يخص منصب رئيس الوزراء حصل نتنياهو على 38٪ وبينيت على 35٪.
ورغم تحسن وضع نتنياهو والليكود في نتائج الاستطلاع الذي أجراه معهد "ميدغام" لاستطلاعات الرأي العام، فقد أعلنت مصادر مقربة من نتنياهو عن شعوره بخيبة الأمل في ظل توقعه الحصول على نسب تأييد أكبر بعد الحرب. واعتبرت النتائج بمثابة قيد على الدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد إشارة العديد من التقارير إلى مناقشة نتنياهو والدوائر المقربة منه الدعوة إلى انتخابات مبكرة، بديلة عن الانتخابات العامة المقررة في أكتوبر 2026، استناداً على "الانتصار" في مواجهة إيران، وبهدف تفويت الفرصة أمام المعارضة، ومحاولة تجاوز الخسائر على الساحات الأخرى وخاصة غزة.
تعيدنا تلك المشاهد بدورها إلى الصورة التي قدمت وتم توظيفها ضمن الخطاب الرسمي الإسرائيلي خلال الحرب الإسرائيلية-الإيرانية التي استمرت لمدة 12 يوماً عن صعود الأسد الذي تم توظيفه في الحرب والذي ذكر بدوره ضمن سفر العدد 23-24 وهي الآية التي جاء فيها: "هوذا شعب يقوم كلبوة، ويرتفع كأسد لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى". إسقاط تم التعامل معه بوصفه تعبيراً يتسق مع تصور نتنياهو للحرب مع إيران بوصفها "حرب وجود"، ودورها في إعادة تشكيل الشرق الأوسط ضمن "النظام الجديد"، وتصوره عن هيمنة إسرائيلية ما في هذا الشرق الجديد المتصور.
لكن مثل تلك الرؤية تتجاوز في اللحظة إسرائيل إلى واقع نتنياهو نفسه، الذي استطاع الخروج من العديد من الأزمات السابقة، ومازال يحاول الخروج من الأزمات القائمة دون خسائر سياسية، والظهور بوصفه "أسد صاعد" يستطيع البقاء وتجنب الأحكام التي يمكن أن تصدر ضده أو الاقتراح القائم بالإقرار بالذنب في القضايا التي يواجهها، بما يحمله وضع مماثل من إعلان نهاية حياته السياسية بصورة تتناقض عن تصوراته عن الاستمرار والتسجيل في التاريخ الإسرائيلي بوصفه رئيس الوزراء الذي نجح في تحقيق إنجازات غير مسبوقة تتجاوز فكرة رئيس الوزراء الأطول من حيث البقاء في المنصب. رؤية ظهرت واضحة في تأكيد نتنياهو خلال الحرب وحديث الانتصارات، ورغم الخسائر الداخلية، عن نيته الترشح للانتخابات لأن لديه مهام كثيرة يتعين عليه إنجازها، وأنه سوف يسعى إلى تحقيق ذلك طالما أراد شعب إسرائيل ذلك.
ورغم التحديات، وخاصة ما تلى إعلان وقف إطلاق النار من نقاش حول حدود الانتصار، وكيف تبدأ حروب نتنياهو بصورة انتصار قبل أن تتحول إلى حالة فشل. وفي حين استطاعت حرب إيران توحيد الائتلاف قبل حدوثها، وساهمت في تجاوز جهود إسقاط الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة في ظل التصويت على قانون تجنيد الحريديم، كما تجاوز معها نتنياهو لفترة الاحتجاجات المتصاعدة من عائلات الأسرى والرهائن وقوى المعارضة على خطوط الفشل في استعادة الأسرى من القطاع، وما يمثله نتنياهو والائتلاف الحاكم من تهديد للديمقراطية الإسرائيلية، فإن وقف الحرب يعيد المشهد إلى بداياته مع تعقيدات أكبر حول القدرة على تحقيق انتصار حقيقي في ظل الفشل في تحقيق الأهداف الكبرى من حرب إيران، وخاصة تجاوز هدف القضاء على البرنامج النووي خلال الحرب إلى هدف تغيير النظام، وغياب استراتيجية واضحة من الحرب في غزة، بالإضافة إلى غياب استراتيجية خروج من القطاع.
تعقيدات كان من شأنها وضع نتنياهو فيما يبدو على نهاية طريق لم يخرجه منه إلا حديث ترامب عن ضرورة إنقاذ نتنياهو كما أنقذ إسرائيل ما أعاد نتنياهو إلى الواجهة، وفي حين لم يحقق له الانتصار المطلوب والخروج من الأزمات المعقدة إلا أنه منحه مشهد تقاطع طرق واجهه في العديد من المرات من قبل.
"مستنقع غزة" وتحديات بقاء نتنياهو السياسي
ساهمت سنوات من سردية إسرائيلية تؤكد على تعظيم تهديد طهران، ومركزية العدو الإيراني في التهديدات الأمنية التي تواجه إسرائيل وتجعل المواجهة مع طهران "حتمية" من أجل ضمان البقاء في تعظيم فكرة الانتصار في الحرب. وفي حين اكتسبت إيران أهميتها الذاتية بوصفها "عدواً" ومصدر تهديد لا يمكن التقليل من أهميته، فقد أضيف إلى تلك الأهمية دور "رأس الأخطبوط"، كما تطلق إسرائيل على طهران، في التهديدات التي تمثلها "أذرع الأخطبوط" أو "وكلاء إيران" في الإقليم أو "حلقة النار" التي ظهرت في جبهات الإسناد التي واجهتها تل أبيب خلال حرب غزة الخامسة، ما يفسر تركيز نتنياهو على أهمية حسن نصر الله في تلك المواجهة، وكيف يتم تعظيم قرار اغتيال نصر الله، رغم ما أحاط به من تحديات ومخاوف من بعض القوى الداخلية، من أجل تعظيم قدرات نتنياهو في القيادة والسيطرة تماماً كما حدث في تنفيذ تفجيرات أجهزة الاتصال اللاسلكي "البيجر" في حالة حزب الله، وفي استهداف طهران ذاتها، والانتقال من تهديد البرنامج النووي وخاصة منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم إلى استهداف النظام السياسي ورأسه ممثلاً في المرشد الأعلى على خامنئي.
مع تراجع التركيز على صورة الانتصار في مواجهة إيران، ودخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط المواجهة عبر استهداف منشأة فوردو في ظل عدم قدرة تل أبيب على القيام بذلك، ثم دفاع ترامب عن ضرورة وقف الحرب، بدأ المسار مختلفاً لنتنياهو عن تصوراته السابقة عن المكاسب المحتملة للحرب مع طهران. ولم تظهر خيبة الأمل تلك في نتائج استطلاعات الرأي العام فقط، ولكن في قصر عمر خطاب الانتصار والمبررات المؤيدة له في وقت تزامن خطاب نتنياهو حول النصر مع كمين خان يونس الذي قامت فيه كتائب القسام-الجناح العسكري لحركة حماس في 24 يونيو الجاري، بقتل 7 من الجنود الإسرائيليين بينهم ضابط.
وفي حين أعاد كمين خان يونس الاهتمام إلى ساحة غزة، فقد أعاد أيضاً التركيز إسرائيلياً على الخسائر التي تدفع دون تحقيق أهداف الحرب، وإذا كان الهدف المركزي لعائلات الأسرى والرهائن وقوى المعارضة، مع اختلاف تصوراتها، هو استعادة الأسرى الأحياء وجثامين الموتى، فإن الحرب المستمرة لا تساهم في تحقيق هذا الهدف بقدر ما تساهم في زيادة الخسائر البشرية. وضع ظهر واضحاً بدوره على هامش الصور التي نقلت لعائلات الجنود القتلى في كمين خان يونس، والتي أبرزت حالة التناقض بين الهدف المتصور ضمن حديث النصر المطلق والواقع ضمن حديث الفشل واستمرار السقوط في مستنقع غزة أو الغوص في رمالها المتحركة دون نهاية.
تزامنت مشكلات نتنياهو مع التركيز الداخلي على ثمن الحرب مع إيران في ظل محدودية الأهداف وخاصة في ظل الجدل الدائر حول حدود التدمير الذي تعرض له البرنامج النووي الإيراني في وقت يظهر واضحاً فشل تل أبيب في إسقاط النظام أو استهداف المرشد الأعلى كما أعلنت خلال الحرب. تبدو الصورة معقدة أيضاً على صعيد حديث الأرقام والخسائر التي تكبدتها إسرائيل في حربها ضد طهران والتي وصلت إلى التساؤل حول القدرات العسكرية الإسرائيلية، وخاصة قدراتها الجوية ودورها في حماية الأمن، وكذلك مجمل القدرات العسكرية في وقت تم حسم تلك الجولة من المواجهة من خلال التدخل الأمريكي، ما برر رفع صور ترامب ومعها عبارات الدعم والتأييد في شوارع تل أبيب. بالإضافة إلى محدودية المكاسب وما يشار إليه في الخطاب الناقد عن خسارة فرصة تحقيق كافة أهداف تل أبيب من إيران، ووصول خسائر الحرب الاقتصادية إلى 12 مليار دولار مع توقع ارتفاعها إلى 20 مليار دولار مع احتساب الأضرار غير المباشرة مثل تكاليف إعادة الإعمار والتعويضات، وكذلك ما كشفته من محدودية القدرة سواء على صعيد الملاجئ أو العنصرية التي ظهرت في العديد من الحالات خلال الحرب.
مع تعقد المشهد ومطالبة أصوات إسرائيلية مختلفة باعتزال نتنياهو بعد المعاناة الناتجة عن الحرب الممتدة من غزة إلى طهران، والمخاوف التي تطرح من أصوات أخرى حول النتائج السلبية المحتملة من بقاء نتنياهو في المشهد السياسي على الديمقراطية الإسرائيلية، واستمرار صعود اليمين الأكثر تطرفاً، جاءت تحركات ترامب على صعيد المطالبة بإلغاء محاكمة نتنياهو أو العفو عنه، والتفاؤل بقرب التوصل إلى قرار لوقف الحرب في غزة، بمثابة طوق نجاة تتوقف تأثيراته على قدرة نتنياهو على توظيفه في معاركه السياسية، وحدود الاستجابة الداخلية، والموقف الفلسطيني والإقليمي من المقترحات الفعلية لوقف الحرب.
لم يأت حديث ترامب عن إنجازات نتنياهو بوصفه "محارب" و"بطل عظيم"، كما وصفه، دون انعكاسات سلبية، تماماً كما كان الوضع في التعامل مع التدخل الأمريكي في الحرب مع طهران. وفي حين دار الجدل حول القدرات العسكرية لإسرائيل في ظل التدخل الأمريكي خلال الحرب، فقد ثار الحديث عن استقلالية القرار الإسرائيلي، ومكانة القضاء، في أعقاب حديث ترامب عن العفو عن نتنياهو. وفي حين عارضت أصوات إسرائيلية مختلفة، مثل لبيد، الفكرة لما تحمله من انعكاسات سياسية سلبية على الداخل الإسرائيلي بصفة عامة أو على القضاء بصفة خاصة، فقد أظهرت مساحة التأثير السياسي للمواقف القائمة وخاصة في موقف شخصية مثل بن غفير والذي جاء موقفه متناقضاً مع حديثه السابق والغاضب من تدخل واشنطن في الشأن الإسرائيلي بهذا الشكل، في حين رفض بن غفير مطالبة واشنطن في مارس 2023 بالتراجع عن قرار إقالة وزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت، وأكد أن إسرائيل ليست نجمة في علم أمريكا، فقد اعتبر أن ترامب "محق تماماً"، وأن الوقت قد حان من أجل إلغاء محاكمة نتنياهو، كما استمر في نقد المحكمة واعتبر في تصريحات تالية له أن النظام القضائي أصبح منفصلاً عن الدولة.
وفي حين تستمر كرة ترامب في التأثير على بحيرة السياسة الإسرائيلية، التي لم تتسم بالهدوء والسكينة منذ "طوفان الأقصى" إلا خلال فترات التوافق قصيرة الأجل، فقد ساهمت مع وقف إطلاق النار على صعيد الحرب الإيرانية في تعظيم الخطاب الناقد للحرب في غزة في وقت تحدث فيه لبيد صراحة عن "فشل إسرائيل في غزة" وضرورة إنهاء الحرب واستعادة الأسرى، ليأتي الحديث عن مقترح ترامب الجديد لإنهاء الحرب في غزة باعتبارها اللحظة المناسبة لذلك، وهو الأمر الذي يربطه نتنياهو بالانتصار على إيران وما ترتبه من انعكاسات على فصائل المقاومة في القطاع. بدوره مثل الحديث عن إنهاء الحرب في غزة، والترتيب لزيارة نتنياهو إلى واشنطن بهدف تعظيم تلك المكاسب ودعم نتنياهو في المشهد السياسي الداخلي، كرة أخرى تتجاوز المشهد الكلي إلى مشهد الائتلاف الحاكم، على الأقل في ظل ضرورة التوظيف السياسي، والتهديد بإسقاط الحكومة.
وعلى الرغم من تمسك الأصوات اليمينية المتطرفة والأكثر تطرفاً في الحكومة الإسرائيلية برفض المقترحات المعلنة لإنهاء الحرب وتسوية الصراع لما تتضمنه من إطار يعتمد حل الدولتين، لا تحمل التسريبات المعلنة حول التصور الأمريكي الجديد في المحصلة النهائية فرصة لإعلان الدولة الفلسطينية المفترضة، على الأقل وفقاً للمعلن حتى الآن ضمن تسريبات المصادر الإسرائيلية.
في هذا السياق، أشارت صحيفة "يسرائيل هيوم" إلى اتفاق ترامب ونتنياهو على عدد من النقاط فيما يخص إنهاء حرب غزة وتسوية الصراع، وإلى جانب الإشارة إلى إطلاق سراح كل الأسرى، تشير الصحيفة إلى نفي ما تبقى من قادة حماس إلى خارج القطاع، والسماح بهجرة من يشاء من السكان، واستيعاب من يرغب في الهجرة في عدد من الدول التي لم يتم تحديدها، مع توسيع اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية لتشمل المزيد من الدول العربية والإسلامية. وإلى جانب الحديث عن إدارة القطاع بعد إنهاء الحرب من قبل 4 دول عربية، تتضمن تلك البنود وفقاً للصحيفة إعلان إسرائيل استعدادها لحل "النزاع الفلسطيني" مستقبلاً بموجب "مفهوم الدولتين" بشرط إجراء إصلاحات في السلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى اعتراف واشنطن بتطبيق "محدود" للسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
وفي حين تقف بعض تلك المقترحات في مواجهة رفض الفصائل المسبق، بما فيها فكرة تسليم كل الأسرى دون الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع حتى حدود السابع من أكتوبر، أو نفي قادة الحركة إلى خارج القطاع بوصفه قراراً فلسطينياً لا يفرض من قبل دولة الاحتلال، فإن استمرار طرح أفكار مثل الإدارة العربية للقطاع رغم رفضها سابقاً، وكذلك فكرة تهجير سكان القطاع التي أعلنها ترامب في حديثه عن تحويل القطاع إلى "ريفيرا الشرق الأوسط" والتي تستمر الحكومة الإسرائيلية في الدفاع عنها، تعد نقطة مرفوضة فلسطينياً وعربياً، وتظهر بشكل واضح في الموقف المصري الذي يتعامل مع محاولات إسرائيل تهجير سكان القطاع منذ بداية الحرب بوصفها تهديداً للأمن القومي المصري ومحاولة لتصفية القضية الفلسطينية.
ختاماً، تعبر التحركات الأمريكية في إيران وغزة، كما في حديث الداخل والعفو عن نتنياهو، عن درجة كبيرة من التنسيق الأمريكي-الإسرائيلي على المستوى الرسمي رغم حديث الخلافات بين الطرفين والغضب الأمريكي من نتنياهو الذي يتردد من وقت إلى آخر في إطار التوظيف السياسي ومواجهة ضغوط الداخل الإسرائيلي، سواء على صعيد قوى المعارضة أو أعضاء الائتلاف، وكذلك الضغوط الإقليمية والدولية، كما ظهر على هامش حرب إيران ويظهر على صعيد خطاب إنهاء الحرب في غزة والضغوط على نتنياهو من قبل ترامب ومن قبل أعضاء حكومته من اليمين الأكثر تطرفاً.
وفي حين تطرح التحركات الأمريكية-الإسرائيلية تساؤلات مهمة على صعيد الداخل الإسرائيلي، وفكرة القدرة العسكرية والاستقلال السياسي، فإنها تطرح أيضاً تحديات فلسطينية وإقليمية مهمة تصب في محصلتها النهائية في تصفية القضية الفلسطينية عبر الاعتراف بسيادة إسرائيلية على الضفة الغربية أو جزء كبير منها، والتي تشكل بدورها الجزء الأكبر من الدولة الفلسطينية المفترضة. في الوقت الذي لا تطرح فيه قضايا استقلال قطاع غزة أو وضع القدس الشرقية للنقاش، وتستمر جهود التهجير ومحاولة تمرير إسرائيل في نسختها الأكثر تطرفاً بوصفها فاعلاً طبيعياً في إقليم يدفع ثمن الأطماع التوسعية لليمين المتطرف والأكثر تطرفاً كما ظهر خلال حرب غزة الخامسة.