دار الإفتاء تُوضح حكم جمع الصلوات للمرأة المُرضع.. جائز بشروط

في ظل ما تواجهه النساء المرضعات من مشقة وتعب بدني ونفسي، وارتباط رعايتهن للمولود أحيانًا بضيق الوقت أو صعوبة أداء الصلوات في أوقاتها المحددة، تكثر الأسئلة حول جواز جمع الصلوات للمرأة المُرضع. وفي هذا السياق، أجابت دار الإفتاء المصرية
الأصل أن تؤدى الصلوات المفروضة في أوقاتها المحددة لها شرعًا، فإذا كانت هناك أعذار تبيح تأخير الصلاة عن أول وقتها فلا مانع شرعًا من أداء الصلاة في أي وقت من وقتها المحدد لها شرعًا، وبخصوص المرأة التي تُرضع وتلحقها مشقة في تطهير ثيابها من تنجسها ببول الصغيرة التي ترضعها أو تغييرها عند كل صلاة فإنه يجوز لها أن تجمع بين الصلاتين -الظهر والعصر أو المغرب والعشاء- جمعًا صوريًّا، بأن تُصلِّيَ الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها، فإن شقَّ عليها وتعذر عليها ذلك تمامًا، فلها حينئذ أن تجمع بين الصلاتين بلا قصر، فتصلي الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات دون نقصان.
مقاصد الشرع الشريف في جعل لكل صلاة وقت ابتداء ووقت نهاية
من المقرر أن للصلاة المفروضة أوقاتًا محددة لا بد أن تؤدى فيها؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، وقوله ﴿مَوْقُوتًا﴾ أي مفروضًا ومؤقتًا بوقت محدد، ومن يسر الإسلام وسماحته وتخفيفه أن جعل للصلاة وقتًا تؤدى فيه وجعل له بدءًا ونهاية، وما بينهما وقت لأداء الصلاة، فإذا كانت هناك أعذار تبيح تأخير الصلاة عن أول وقتها فلا مانع شرعًا من أداء الصلاة في أي وقت من وقتها المحدد لها شرعًا.
والشريعة مبناها على التخفيف والتيسير على المكلفين ورفع الحرج والمشقة عنهم، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وعن أبي أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» رواه الإمام أحمد.
ومقصد الشرع من وراء ذلك ترغيب الناس في المداومة على الإتيان بالتكاليف دون انقطاع عنها بلا مشقة أو تقصير في أدائها.
يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" في بيان حكمة رفع الحرج عن المكلفين : [فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما] .
مذاهب الفقهاء في حكم الجمع بين الصلوات وشروط ذلك
من مظاهر التيسير والتخفيف في الأحكام: إباحة الجمع بين الصلوات، والذي قرره جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة من غير تقييد بمكان أو زمان، وخالف فيه الحنفية حيث قالوا: لا يجوز الجمع بين صلاتين في وقت إحداهما بسبب العذر لا في سفر ولا حضر عدا يوم عرفة والمزدلفة.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" : [لا يجوز الجمع بين فرضين في وقت أحدهما إلا بعرفة والمزدلفة فيجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، اتفق عليه رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله، ولا يجوز الجمع بعذر السفر والمطر]
بيد أنَّ جمهور الفقهاء الذين أجازوا الجمع بين الصلوات في الجملة من غير تقييد بمكان أو زمان لهم تفصيل في هذه المسألة بيانه على النحو الآتي:
ذهب المالكية إلى جواز الجمع في السفر والحضر عند المطر والوحل مع الظلمة والمرض، وكذا في عرفة والمزدلفة.
قال الشيخ الدردير المالكي في "الشرح الكبير" : [ولما أنهى الكلام على قصر الصلاة بالسفر تكلم على الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت ولجمعهما ستة أسباب السفر والمطر والوحل مع الظلمة والمرض وعرفة ومزدلفة] .
وأما الشافعية فقد أجازوا الجمع في السفر الطويل وفي الحضر في حالة المطر وهو المشهور في المذهب.
قال الخطيب الشربيني الشافعي في "الإقناع" : [ثم شرع في الجمع بالمطر فقال: (ويجوز للحاضر) أي المقيم (في المطر) ولو كان ضعيفا بحيث يبل الثوب ونحوه كثلج وبرد ذائبين (أن يجمع) ما يجمع بالسفر ولو جمعة مع العصر... قال الشافعي كمالكٍ: أرى ذلك في المطر ولا يجوز ذلك تأخيرًا؛ لأن استدامة المطر ليست إلى الجامع فقد ينقطع فيؤدي إلى إخراجها عن وقتها من غير عذر بخلاف السفر... تنبيه: قد علم ممَّا مرّ أنه لا جمع بغير السفر ونحو المطر كمرض وريح وظلمة وخوف ووحل وهو المشهور؛ لأنه لم ينقل، ولخبر المواقيت فلا يخالف إلا بصريح، وحكى في "المجموع" عن جماعة من أصحابنا جوازه بالمذكورات قال: وهو قوي جدا في المرض والوحل واختاره في "الروضة" لكن فرضه في المرض وجرى عليه ابن المقري]
ونقل الإمام النووي عن بعض الأصحاب القول بجواز الجمع في حالة المرض والظلمة والريح والخوف والوحل، ورجح المرض، واستدل بخبر ابن عباس رضي الله عنهما: "جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة من غير خوف ولا مطر" رواه مسلم. يُنظر: "روضة الطالبين" للإمام النووي الإسلامي)، ويُنظر "المجموع" للإمام النووي .
وتوسَّع الحنابلة في تفصيل الأعذار التي يجوز الجمع لأجلها، فذكروا أعذارًا ثمانية تبيح الجمع: المسافر سفر قصر، والمريض الذي يلحقه بترك الجمع مشقة، والمرضع، وأصحاب الأعذار كالمستحاضة ومن به سلس بول وريح ومن به جرح لا ينقطع دمه، والعاجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة، والعاجز عن معرفة الوقت، ولمن به عذر أو شغل يبيح ترك الجمعة والجماعة كأن يخاف على نفسه أو شغل يتضرر بتركه في معيشته.
قال الإمام ابن النجار الفُتوحي في متن "منتهى الإرادات" : [يُباح جمعٌ بين ظهر وعصر وعشاءين بوقت إحداهما... بسفرِ قصرٍ، ولمريضٍ يلحقه بتركه مشقة، ولمرضعٍ لمشقةِ كثرة نجاسة، والمستحاضة ونحوها، وعاجزٍ عن طهارة أو تيمم لكل صلاة، أو عن معرفةِ وقتٍ: كأعمى ونحوه، ولعذرٍ أو شُغلٍ يُبيح ترك جُمعةٍ وجماعة]ـ.
حكم الجمع بين الصلوات للمرأة التي تُرضع وتلحقها مشقة في تطهير ثيابها
المرأة التي تُرضع وتلحقها مشقة في تطهير ثيابها، من تنجسها ببول الصغيرة التي ترضعها، وهي تريد المحافظة على صلاتها، ففي الشرع ما يرفع عنها هذا الحرج مما جاء من توسعة في مذاهب الفقهاء المعتبرة، وبيان ذلك كما يأتي على الترتيب:
أولًا: أن لها أن تجمع جمعًا صوريًّا، كما قرر فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وذلك بأن تُصلِّيَ الأولى في آخر وقتها والثانية في أول الوقت.
قال الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي في "شرح مختصر الطحاوي" : [مسألةٌ: لا يجوز الجمع بين الصلاتين في غير عرفة والمزدلفة إلا جمعًا صوريًّا. قال أبو جعفر: (والجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر للمريض أن يصلي الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، وكذلك المغرب والعشاء، ولا تجمعان في وقت إحداهما إلا بعرفة وجمع). قال أبو بكر أحمد: الأصل في ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾: يعني فرضًا مُؤقَّتًا] .
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 68-69، وبهامشه "حاشية للشيخ علي العدوي"، ط. دار الفكر): [(وكالمبطون) ثاني أسباب الجمع أي: الجمع الصوري، وليس الحكم مخصوصًا بالمبطون، بل يشاركه فيه كل من تلحقه المشقة بالوضوء أو القيام لكل صلاة، وإن كان الجمع للمريض أرفق به لشدة مرض أو بطن منخرق من غير مخافة على عقل جمع بين الظهر والعصر في وسط وقت الظهر وبين العشاءين عند غيبوبة الشفق] اهـ.
وعند الحنابلة قريبٌ من ذلك؛ فليس عندهم -في بعض الأحوال- ما يمنع من تأخير الصلاة لقرب وقت الصلاة الثانية دفعًا للمشقة وطلبًا لليسر.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 283، ط. مكتبة القاهرة): [ذكر القاضي أنه يستحب تأخير الظهر والمغرب في الغيم، وتعجيل العصر والعشاء فيه. قال: ونص عليه أحمد رحمه الله في رواية الجماعة؛ منهم المروذي فقال: يؤخر الظهر في يوم الغيم، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء وعلل القاضي ذلك بأنه وقت يخاف منه العوارض والموانع؛ من المطر، والريح، والبرد، فتلحق المشقة في الخروج لكل صلاة، وفي تأخير الصلاة الأولى من صلاتي الجمع، وتعجيل الثانية، دفع لهذه المشقة؛ لكونه يخرج إليهما خروجا واحدا، فيحصل به الرفق، كما يحصل بجمع الصلاتين في وقت إحداهما] اهـ.
ثانيًا: أنَّ الجمع بين الصلوات بلا قصر يجوز للحاجة، كما هو منقول عن بعض العلماء ومنهم بعض فقهاء الشافعية والحنابلة، والمرضع محتاجة لذلك؛ للمشقة التي تلحق بها.
ودليل جواز الجمع هنا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ»، وفي روايةٍ قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ» رواهما مسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري": [وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا... وممن قال به: ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث] اهـ.
قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" : [وقد حكى الخطابي عن القفال الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي جواز الجمع في الحضر للحاجة من غير اشتراط الخوف والمطر والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا] اهـ.
ثالثًا: أنَّ الحنابلة قد خصُّوا المرضع بذكرٍ منفرد؛ فنصُّوا على أنَّه يجوز للمرضع -بسبب ما يلحقها من مشقة في تطهير ثيابها من النجاسة- أن تجمع بين الصلاتين، وعدوا هذا الحال من الأعذار المبيحة للجمع.
قال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع": [(و) الحال الثالثة (لمرضعٍ لمشقة كثرة النجاسة) أي: مشقة تطهيرها لكل صلاة. قال أبو المعالي: هي كمريض] اهـ.
ودليلهم أثرُ ابن عباس رضي الله عنهما المُتقدِّم.
ووجه الاستدلال في قياس المرضع التي تلحقها المشقة بالمريض: أنه لا عذر بعد ذلك -أي ما ورد في الروايتين- إلا المرض. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للعلامة البهوتي .
وتجدر الإشارة إلى أنه حيث أجيز للمرضع جمع الصلوات في بعض الحالات التي تظهر فيه المشقة، فإن هذا قاصر على الجمع، ولا يتعداه إلى قصر الصلاة؛ لما تقرر من أنَّ القصر رخصة تشرع حال السفر الطويل بشروطه، وحيث انتفى السفر فلا يشرع القصر.
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" في بيان شروط قصر الصلاة: [(ويُشترط كونه) أي الشخص الناوي للقصر (مسافرًا في جميع صلاته، فلو نوى الإقامة) القاطعة للترخص (فيها) أو شك هل نواها أو لا (أو بلغت سفينته) فيها (دار إقامته) أو شك هل بلغها أو لا (أتمَّ) لزوال سبب الرخصة في الأولى والثالثة، كما لو كان يصلي لمرض فزال المرض يجب عليه أن يقوم، وللشك في الثانية والرابعة] اهـ.