عاجل

استمرار الهيمنة الأمريكية بالمنطقة.. دلالات عملية "مطرقة منتصف الليل" ضد إيران

جانب من الأحداث
جانب من الأحداث

ليس هناك من شك في أن الضربات الاستباقية التي شنتها الولايات المتحدة ضد المواقع النووية الإيرانية يوم 22 يونيو 2025، تعدُ إحدى اللحظات السياسية المهمة في تاريخ إقليم الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة قد دخلت على خط التماس وأيدت بشكل هجومي مباشر إسرائيل في حربها ضد إيران.

 وبالرغم من أهمية تلك التطورات السياسية وما قد يتبعها من أحداث، إلا أن عملية "مطرقة منتصف الليل" لا تمثل تغيراً استراتيجياً جديداً في الشرق الأوسط، إنما جاءت تأكيداً لواقع الإقليم حتى هذه اللحظة التاريخية. فما قامت به الولايات المتحدة يؤكد على عدد من الحقائق الجيوسياسية والعسكرية، بينما التغييرات التي يمكن رصدها في أداء السياسة الأمريكية تدخل في نطاق المستوى العملياتي.

ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعلى ذلك، فالضربات الأمريكية قد تكون نجحت في تحقيق بعض الأهداف السياسية والعسكرية من زاوية تعطيل البرنامج النووي الإيراني لمدة زمنية، ودفع طهران للاتفاق على وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وربما دفع الأولى أيضاً باتجاه جولة جديدة من المفاوضات، الا أن الهجوم الأمريكي لم يؤدي إلى تحول استراتيجي مماثل لما وقع بعد بعض الحروب الأخرى في المنطقة مثل حرب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أو حرب أكتوبر عام 1973 أو حرب الخليج الأولي عام 1991 أو حتى بعض الأحداث السياسية الكبرى مثل الثورة الإيرانية عام 1979.

وفي هذا المقال، سنقوم بعرض بعض الحقائق الاستراتيجية والعسكرية القائمة التي أكدتها الضربات الأمريكية ضد إيران، ثم نستعرض بعض التغيرات العملياتية في أداء السياسة الأمريكية، وننتهي بطرح افتراض عام قد يؤدي في المستقبل إذا حدث إلى تغيير البيئة الاستراتيجية في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط.

حقائق استراتيجية: استمرار الهيمنة الأمريكية في المنطقة

بغض النظر عن نجاح العمل العسكري ضد إيران، حيث لم تظهر بعد التقييمات النهائية للعملية العسكرية – battlefield assessments - تؤكد أحداث حرب الإثنى عشر يوماً أن الولايات المتحدة لا تزال هي الدولة المهيمنة على أمن منطقة الشرق الأوسط في مجمله، وأنه لا توجد دولة كبرى أخرى تنازعها هذا الدور سواء الصين أو روسيا. وقد برز ذلك من خلال استئثار الولايات المتحدة بالتدخل العسكري في أحداث تلك الحرب منذ أن شنتها إسرائيل يوم 13 يونيو الحالي. فقد قامت واشنطن بالاشتراك في الدفاع عن إسرائيل بُناءً على تواجدها العسكري الدائم في المنطقة وعلى قدرتها على سرعة حشد موارد عسكرية إضافية مثل توجه حاملة الطائرات الأمريكية "نيميتز" من المحيط الهادئ إلى مسرح عمليات منطقة الخليج العربي وزيادة عدد الطائرات F-16 وF-22 وF-35 في المنطقة. وجاءت تلك التحركات لتعزز قوة واشنطن العسكرية وإعطائها حرية الحركة في اتخاذ القرارات المناسبة لها وأيضاً لردع الجماعات المسلحة والمليشيات المؤيدة لطهران، هذا بالإضافة إلى استمرارها في القيام بأعبائها الدفاعية الأخرى مثل تأمين الممرات المائية في البحر الأحمر والخليج العربي.

وبرز استمرار تلك الهيمنة أيضاً من خلال استحواذ الولايات المتحدة على الملف الدبلوماسي لتلك الحرب. فقد سعت كل الأطراف الإقليمية، بما فيها إيران، للاتصال المباشر وغير المباشر بواشنطن لحثها على ضبط أحداث الحرب ومنع تصعيدها إقليمياً والضغط على إسرائيل لتتوقف عن هجماتها ضد إيران، وهو الأمر الذي إن دل على شيء فهو يدلُ على دور الولايات المتحدة في المنطقة.

وفي المقابل، برز غياب الدول الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا عن أحداث تلك الحرب، فبالرغم من اعتراض الدولتين على إسرائيل وحربها الاستباقية ضد إيران، إلا أنهما لم يتمكنا من التأثير على أحداث الحرب، ولم يقدما سياسة ملموسة تخدم حليفتهما الرئيسية إيران لإنقاذها من موقفها الضعيف في الحرب، وهو الأمر الذي يوضح التفاوت في توازن القوة بين الولايات المتحدة من ناحية والصين وروسيا من ناحية أخرى. وفي نهاية الأمر، كانت واشنطن هي الدولة التي استطاعت أن تبرم اتفاق وقف إطلاق نار بين إسرائيل وإيران وليست أى دولة أخرى.

الاندماج العسكري بين الولايات المتحدة وإسرائيل

ربما ليس الأمر بجديد عندما يبرز حجم التعاون العسكري الأمريكي-الإسرائيلي من خلال تلك الحرب، فالسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط مبنية على فكرة تمكين إسرائيل دائماً من الدفاع عن نفسها والحفاظ على تفوقها العسكري النوعي بالمقارنة بجيرانها، وهو الأمر الذي داومت عليه كل الإدارات الامريكية منذ إدارة الرئيس ليندون جونسون عام 1968 حتى يومنا هذا. فالرئيس دونالد ترامب منذ أن شنت إسرائيل حملتها ضد إيران قد وصف السلوك الإسرائيلي بأنه دفاع عن النفس وأشاد في نفس الوقت بمستوى أداء العسكرية الإسرائيلية باعتباره امتداداً للتفوق العسكري والتكنولوجي الأمريكي. وربما كان النجاح العسكري الإسرائيلي ضد إيران مشجعاً لترامب على دخول الحرب إلى جانب إسرائيل لتحقيق هدفهما المشترك وهو منع إيران من تطوير سلاح نووي، إلا أن الأداء العسكري الأمريكي والإسرائيلي المشترك يوضح حجم وكفاءة تدريبهما وتنسيقهما، كما يوضح سرعة تبادل المعلومات فيما بينهما. وقد أشارت بعض التقارير إلى عمق هذا الاندماج من خلال سرعة استلام وتسليم الولايات المتحدة للمجال الجوي الإيراني بعد أن سيطرت عليه إسرائيل بالكامل خلال عدوانها، وذلك لتقوم قاذفات الB-2 والطائرات الأخرى بتنفيذ أهدافها ضد المواقع النووية الإيرانية الثلاثة: فوردو ونطنز وأصفهان.

التغيرات النوعية في السياسة الأمريكية

بما أن الصورة الاستراتيجية الكبرى في الإقليم في مجملها لم تتغير، فما الجديد إذن في عملية "مطرقة نصف الليل". هنا نشير إلى الآتي:

أولاً: منذ عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس ضد إسرائيل يوم 7 أكتوبر عام 2023 ركزت الولايات المتحدة تحت قيادة إدارة الرئيس السابق جو بايدن على أن يكون تموضعها العسكري في المنطقة – posture- دفاعياً، بحيث تهدف الاستراتيجية الأمريكية إلى الدفاع عن كل مصالحها بما فيها أمن إسرائيل، وردع أي تهديدات أخرى. وقد استمرت تلك السياسة خلال إدارة ترامب كما أشرنا حتى بدأ الهجوم العسكري الإسرائيلي ضد إيران. وفي ذلك الوقت، أكدت الإدارة الأمريكية أنها لا تشارك في تلك العمليات الهجومية، وإنما تقوم بأدوار دفاعية فقط، إلا أنه بالهجوم على إيران تحول التموضع من دفاعي إلى هجومي، وقد يكون بداية لمزيد من العمليات العسكرية الأمريكية ضد طهران إذا استدعى الأمر، خصوصاً وأن النظام الإيراني قد بدا في حالة ضعف وانعزال شديد، مما قد يشجع ترامب على ممارسة مزيد من الضغط على طهران لإجبارها على إبرام اتفاق نووي جديد.

ثانياً: يبدو أن إدارة ترامب قد استفادت من تجربة الفشل الأمريكي السابق في العراق وأفغانستان، وصممت تدخلها العسكري ضد طهران ليكون حاسماً من ناحية القوة العسكرية المستخدمة، ولكن محدداً من حيث الأهداف. فإدارة ترامب تسعى إلى الابتعاد عن عمليات تغيير النظم السياسية بالقوة وعدم الانخراط فيها، والتي تُعرف إعلامياً في واشنطن بالحروب الأبدية – forever wars-، ولذلك امتنعت إدارة ترامب عن توسيع أهداف حملتها العسكرية المقتضبة. فقد التزمت بأهدافها النووية فقط، ولم تستهدف منشآت عسكرية أخرى ولم تقصف أهدافاً اقتصادية أو تدمر بنية تحتية لإضعاف النظام على عكس ما قامت به إسرائيل. بل أكدت في أكثر من مناسبة أنها لا تسعى إلى تغيير نظام الحكم في إيران، وأكد ذلك نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس في حوار تلفزيوني بأن الولايات المتحدة ليست في حرب ضد إيران، بل في حرب ضد برنامجها النووي المسلح فقط، كما أكد وزير الدفاع بيت هجسيث أن عملية "مطرقة منتصف الليل" لا تهدف إلى تغيير النظام الإيراني. ومما يؤكد ذلك التوجه والتصريحات السياسية هو غياب أي تحركات أمريكية تشير إلى زيادة عدد القوات البرية من الجيش والمارينز إلى الدول المجاورة لإيران، وهو الأمر الذي كان ضرورياً إذا كانت هناك رغبة حقيقية في تغيير النظام في إيران بالقوة. فحتى الآن، استقر عدد القوات العسكرية الأمريكية في المنطقة بما يتراوح ما بين 30،000 و40،000 جندي فقط، وتغيير الأنظمة السياسية بالقوة العسكرية يحتاج عدد قوات أكبر من ذلك بكثير. فعلى سبيل المثال، احتلت الولايات المتحدة العراق عام 2003 بعدد قوات وصل إلى 150,000 جندي، واعتُبر هذا العدد ضئيلاً في ذلك الوقت بالنسبة إلى تعداد السكان في العراق، والذي كان قد قارب الـ27 مليون نسمة. أما إيران اليوم فتعدادها قد تجاوز الـ90 مليون نسمة، وبذلك تحتاج إلى تواجد عسكري كثيف من جانب الولايات المتحدة في حال رغبة الأخيرة في تغيير النظام بالقوة، إلا أنه أمر مستبعد في الوقت الراهن بسبب العقدة الأمريكية في العراق وأفغانستان وعدم تماشي هذه النوعية من التدخلات مع أولويات إدارة ترامب الداخلية. فترامب يسعى كما يزعم إلى إعادة بناء اقتصاد أمريكي جديد وتحقيق رفاهية للمواطن وخفض الضرائب على المواطنين والشركات، وتخفيض الإنفاق الحكومي العام والحفاظ على سعر نفط معتدل، وكلها أمور قد يُربكها تورط واشنطن مرة أخرى في إعادة بناء دولة كبيرة مثل إيران.

هل تنهار إيران من الداخل بسبب الضغوط الأمريكية؟

بالرغم من عدم سعى إدارة ترامب إلى تغيير النظام الإيراني بالقوة المسلحة واستبداله بنظام آخر، إلا أن نظام الجمهورية الاسلامية قد ينهار بسبب الضغوط العسكرية واستمرار الحصار الاقتصادي عليه. وإذا حدث هذا الانهيار فسيعدُ ذلك تغيُراً استراتيجياً في المنطقة، حيث ستخرج الجمهورية الإسلامية من معادلة توازن القوة لفترة قد تطول. وسيكون لانهيارها أصداء في الشرق الأوسط، وسيحدث لا شك فراغ استراتيجي ليس من الواضح بعد من هى الدولة أو مجموع الدول التي ستملئه. وعلى ذلك، فقد تلجأ الولايات المتحدة مرة أخرى إلى تغيير استراتيجيتها في المنطقة كرد فعل لذلك الحدث الذي سيؤثر لا محالة على استقرار بعض الدول العربية، وأمن الممرات المائية، وسوق النفط العالمية.

تم نسخ الرابط