العام الهجري الجديد| معاني الهجرة ودروسها كما لم تعرفها من قبل

قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، بمناسبة العام الهجري الجديد، نتذكر دروس الهجرة ومعانيها، وقد قال النبي ﷺ في شأن الهجرة المخصوصة التي أكرمه الله بها من مكة إلى المدينة: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» [رواه البخاري]. فبعد فتح مكة خرجت من عبادة الأوثان، ودخلت في التوحيد الخالص، فلم تعد هناك حاجة للفرار بالدين منها إلى المدينة المنورة كهجرة إيمان، ولا إلى الحبشة كما كان من قبل كهجرة أمن، فقد آمن الناس وشعروا جميعًا بالأمان.
للهجرة معنًى عميق في ذاتها
وتابع علي جمعة من خلال صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك: للهجرة معنًى عميق في ذاتها، نراه في سِيَر جميع الأنبياء؛ فإبراهيم عليه السلام هاجر طلبًا للإيمان، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وموسى عليه السلام هاجر إلى أرض مدين طلبًا للأمن، وإسماعيل عليه السلام هاجر إلى أرض مكة لإقامة البيت على قواعده، ويعقوب عليه السلام هاجر إلى مصر للحاق بيوسف وأخيه. وهكذا، لو تتبعنا هجرات الأنبياء لوجدناها كانت لأغراض متعددة، فأصبحت منهج حياة: لطلب الرزق، أو لطلب العلم، أو للأمن، أو للإيمان، أو لغير ذلك.
ولذلك كان لا بد أن يكون للهجرة معنًى مستمر، لمكانتها البارزة في الدين، سواء أكان أحدُنا ينتقل من مكان إلى مكان أو من حال إلى حال.
الهجرة الانتقال من مكان إلى مكان
فأما الانتقال من مكان إلى مكان، فقد ورد أن من رأى منكرًا فعليه أن يزِيله أو يزول عنه، وهو ما يُفهم من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وهذا منهج قوي في مقاومة الفساد، وعدم الرضا به، يرتبط ارتباطًا عضويًّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد طوَّره المسلمون قديمًا في نظام الحسبة، وحديثًا في المؤسسات الرقابية كالجهاز المركزي للمحاسبات، وهيئة الرقابة الإدارية، وأنظمة المرور، وتفتيش التموين والصحة. فالابتعاد عن أماكن المعاصي مأمورٌ به، والنهي عن السكوت عنها، وإلا أصابنا العذاب مع المجرمين.
الهجرة انتقال من حال إلى حال
وأما الانتقال من حال إلى حال، فيتمثّل في التوبة والرجوع إلى الله، وعدم اليأس من الذنب؛ فإن الاستمرار فيه أشد من الوقوع فيه. وقضية التوبة هي أساس الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضى الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون لا يخفي منكم خافية". وهو مصداق قول النبي ﷺ : «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله» [الترمذي]. وعلى هذا المفهوم؛ فإن الهجرة أمرٌ مستمر في الحياة اليومية للمؤمن، وهي لا تقتصر على الانتقال المادي، بل تشمل الانتقال المعنوي أيضًا.
ومن ثم، فنحن اليوم في أشدّ الحاجة إلى هذا المفهوم الواسع، الذي يشمل:
أولاً: مقاومة الفساد والإفساد، سواء أكانت هذه المقاومة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالتغيير الواجب بكل وسائله، أو كانت توبةً نصوحًا ينخلع بها المفسد من فساده، ويرجع إلى الله بمحاسبة النفس، وهجرةٍ بعد عصيان.
وثانيا: أن هذا المفهوم الواسع المستمر للهجرة يجعلنا من المهاجرين، وما أدراك ما ثوابهم ومرتبتهم عند الله، إذا قمنا بما يسمى في عصرنا الحاضر بـ"التنمية"؛ فثمة ارتباط وثيق بين معنى الهجرة الشرعي ومقاصد التنمية الشاملة وأهدافها، ويتصل بذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }.
واختتم علي جمعة: القراءة الصحيحة لهذه الآيات والأحاديث، وكما علمنا رسول الله ﷺ، لا تقتصر على الحالة الروحية، ولا على الدلالات اللغوية الضيقة لبعض الألفاظ، وإنما تمتد لتُكون معنىً واسعاً يتناسب مع مراد الله من خلقه، ومع مقصوده من شرعه.