ما بعد وقف الحرب.. دراسة: الردع المحدود ودلالات استهداف إيران لقاعدة العديد

أتمت طهران مساء يوم 23 يونيو ردها على العملية العسكرية الأمريكية التي نفذتها قاذفات B-2 وصواريخ توماهوك ضد ثلاث منشآت رئيسية لبرنامج إيران النووي، هما فوردو ومفاعل نطنز ومجمع أصفهان؛ حيث أطلقت دفعة صاروخية قوامها 14 صاروخًا بالستيًا متوسط وقصير المدى على قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر، وبينما استطاعت الدفاعات الجوية الأمريكية والقطرية اعتراض 13 منها، سقط إحداها على مسار غير مهدد في القاعدة ولم يتسبب في أي أضرار تذكر، ورغم الرمزية الواضحة للضربة الإيرانية فإنها تنطوي على دلالات ورسائل مهمة.
دلالات العملية الإيرانية
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية ، ينطوي الرد الإيراني على الضربات الأمريكية لمنشآت فوردو ونطنز وأصفهان ، سواء من حيث تحديد الهدف أو توقيت الاستهداف على عدة دلالات نذكر منها التالي:
• اختيار هدف عالي القيمة : يحمل اختيار قاعدة العديد الجوية لتنفيذ الرد الإيراني دلالات رمزية تتعلق بكونها أكبر قاعدة جوية أمريكية خارج الولايات المتحدة، وواحدة من أهم القواعد العسكرية الأمريكية بالخليج، وتُعدّ قاعدة العديد المقر الرئيسي للقيادة المركزية الأمريكية (سينتكوم)، التي تُدير العمليات العسكرية في منطقة تمتد من الغرب إلى كازاخستان شرقًا، كما تُعد مركزًا رئيسيًا للنشاط العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط؛ حيث خرجت منها القوات المشاركة في غزو أفغانستان والعراق، وكانت بمثابة منصة انطلاق للضربات اليومية وطلعات الإمداد في جميع أنحاء المنطقة خلال ذروة ما أسمته واشنطن الحرب ضد الإرهاب ، ومن ثم فإن استهدافها ينطوي على رسالة إيرانية مباشرة بأنها لم تفقد سلاحها الردعي الرئيسي المتمثل في برنامجها الصاروخي رغم الضربات الإسرائيلية، وأنها وإن قبلت التفاوض على برنامجها النووي تحت وطأة الحرب والعقوبات الاقتصادية ، فإنها لن تقبل بتنازلات فيما يخص برنامج الصواريخ البالستية.
• تلبية مطالب الداخل بالانتقام: اختارت إيران هجومًا منسقًا ومعلنًا مسبقًا لضمان حفظ ماء وجهها وتجنب إحراج نظامها أمام قاعدته الشعبية، بحيث يُلبي المطالب المحلية بالانتقام، ويرسل في الوقت ذاته إشارات إلى المجتمع الدولي، وخاصة الجهات الفاعلة الإقليمية والقوى العالمية، بأنها منفتحة على خفض التصعيد، وهو نهج يشبه ما حدث عام 2020 ردًا على اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، عندما أبلغت طهران العراق قبل قصف قاعدة عين الأسد، غير أن طهران حرصت على تكبيد الولايات المتحدة مخاطر أقل هذه المرة تجنبًا لاستفزاز ترامب؛ إذ أطلقت 14 صاروخًا على القاعدة الجوية، مقارنة بما بين 15 و22 صاروخًا باليستيًا على قاعدة عين الأسد الجوية وموقع أمريكي آخر في العراق خلال يناير 2020، وبينما لم تؤدِ الضربة إلى إصابة أو مقتل أي من أفراد الخدمة الأمريكية نظرًا إلى إخلاء القاعدة يوم 17 يونيو، فإن هجمات 2020 خلفت ما لا يقل عن 64 إصابة من أفراد الخدمة الأمريكية في قاعدة عين الأسد الجوية، على الرغم من أن الولايات المتحدة تلقت تحذيرًا مسبقًا مماثلًا سمح للأفراد بدخول المخابئ. وبصفة عامة، يوفر هذا التكتيك لجميع الأطراف مخرجًا محتملًا من الصراعات المقبلة؛ مما يسمح للقادة بالادعاء بأنهم تصرفوا بشكل حاسم دون تجاوز العتبات التي من شأنها أن تجعل الحلول الدبلوماسية مستحيلة.
• محاولة إعادة إرساء الردع مع تجنب التصعيد: كانت الضربة الصاروخية الإيرانية على قاعدة العديد بمثابة عمل رمزي للغاية، تم إعداده بعناية لإرسال رسالة سياسية وليست عسكرية إلى الولايات المتحدة، مفادها أن يد إيران تطول مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وأنها قادرة باستخدام تكنولوجيا منخفضة نسبيًا على رفع كلفة حماية المنشآت العسكرية الأمريكية وحلفاء واشنطن الخليجيين، مع تجنب الانزلاق نحو صراع أوسع وأكثر تدميرًا لا تقدر إيران على خوضه؛ حيث أعلنت أن عدد الصواريخ التي أطلقتها يطابق عدد القنابل التي أسقطتها الولايات المتحدة على المواقع النووية الإيرانية؛ مما يشير إلى نيتها تقديم رد متناسب –رغم اختلاف التكنولوجيا المستخدمة وقدراتها التدميرية والخسائر الناجمة عنها– بدلًا من تصعيد الوضع بشكل لا يمكن السيطرة عليه، ويسلط هذا التناظر الضوء على رغبة إيران في إظهار أنها لن تترك الهجمات على أراضيها دون رد، ولكنها أيضًا لا تسعى إلى حرب شاملة.
• مراعاة الحساسيات الإقليمية: رغم استضافة العديد من الدول الخليجية لقواعد أو قوات أمريكية، وقع اختيار إيران على قطر التي تحتفظ بعلاقات دافئة ومستقرة نسبيًا معها، وبقدر ما يبدو خيارًا بعيدًا عن التوقعات، فإنه قد يبدو منطقيًا من زاوية الحسابات الإيرانية، فالعلاقات القطرية الإيرانية هي الأوثق بين دول مجلس التعاون الخليجي، باستبعاد سلطنة عُمان التي تحتفظ بعلاقات إيجابية بكافة الأطراف الإقليمية تدعمها سياسة الحياد، كما أنها غير محملة بأعباء خبرات وهواجس سلبية على غرار السعودية والإمارات اللتين تعرضت منشآتهما النفطية والمدنية لضربات حوثية عام 2019 أثارت لديهما مخاوف وحساسيات أمنية، وهو ما يجعلها خيارًا محسوبًا؛ إذ يمكن لإيران الرد دون إثارة رد فعل سياسي حاد من الدوحة؛ مما يسمح ببقاء الوضع تحت السيطرة.
قراءة في الموقف الخليجي
اقتصر الموقف الخليجي على إدانة التصعيد الإيراني على قاعدة العديد الجوية باعتباره انتهاكًا للسيادة القطرية، ولميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وعبر بيان الخارجية القطرية عن حق الدولة في الرد المباشر بما يتناسب مع حجم الهجوم وفي التوقيت المناسب. في هذا السياق، أدانت السعودية الهجوم باعتباره انتهاكًا لمبادئ حسن الجوار، وعبرت عن مساعيها لتقديم الدعم لقطر بهدف حماية أمنها والحفاظ على سيادتها. كما أدانت البحرين الهجوم الذي استهدف السيادة القطرية.
لم يختلف بيان الخارجية الإماراتية كثيرًا عن صياغة الإدانة، والدعوة إلى الخيار الدبلوماسي، ورفض الخيار العسكري. كذلك أعربت الخارجية العمانية في بيان لها عن استنكار حالة التصعيد الإقليمي، وإدانة الهجوم باعتباره ينتهك سيادة دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يتنافى مع مبدأ حسن الجوار، ويوسع من رقعة الصراع.
وتضامنت الكويت مع قطر عبر بيان وزارة الخارجية الكويتية بدعم قطر في اتخاذ جميع الإجراءات للحفاظ على سيادتها وأمنها واستقرارها، وحقها في الرد، بما يتناسب مع حجم وطبيعة الاعتداء. كما أدان مجلس التعاون الخليجي الهجوم الصاروخي الذي قامت به إيران ضد دولة قطر، وعدّه انتهاكًا لسيادة قطر، ومساسًا بأمن دول الخليج، ودعا المجتمع الدولي ومجلس الأمن إلى تحمل مسئوليته، واتخاذ خطوات فاعلة لردع التحركات الإيرانية غير المسئولة.
استنادًا إلى ردود الفعل الخليجية وطبيعة وحجم الضربة، لن تشكل هذه الضربة تأثيرًا كبيرًا على العلاقات بين الخليج وإيران، خاصة أنها ضربة في سياق حفظ ماء الوجه الإيراني، لذلك سوف تقتصر التحركات الخليجية خلال المرحلة المقبلة على قيادة جهودًا للوساطة بالتنسيق مع الولايات المتحدة، والدفع في مسار خفض التصعيد خاصة أن المصالح الخليجية والأمريكية تتوافق بشأن خطورة استمرار التصعيد الإسرائيلي- الإيراني مع رفض اتجاه طهران إلى خيار تعطيل إمداد النفط العالمية بغلق مضيق هرمز أو تهديد الملاحة في البحر الحمر، أو خلق حالة من الاضطراب في الأسواق.
ومن ثَمّ يستند الموقف الخليج في الوقت الحالي إلى رفض التصعيد الإقليمي أو التوجه الأمريكي الإسرائيلي نحو إسقاط النظام الإيراني، بما يخلق حالة من الفوضى في الجوار الإقليمي القريب لهذه الدول، كما ترفض دول الخليج التمدد الإيراني في المنطقة الذي يزعزع استقرارها، ويمثل تهديدًا لطموحاتها الإقليمية، لذلك اتجهت السعودية إلى مسار التطبيع مع إيران برعاية صينية في العام 2023، بما قاد إلى فتح السفارات بين الدولتين وتهدئة التوترات.
على الجانب الآخر، ستتجه دول الخليج إلى اتباع استراتيجية التحوط الاستراتيجي في علاقتها مع الأطراف المتصارعة في الإقليم، بالاستمرار في إقامة شراكات مع الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة التهديدات الإيرانية، ورفض الخليج الانخراط في الحرب أو اتخاذ رد فعل عسكري في مواجهة إيران في ظل العقيدة الراسخة لدي هذه الدول بالحفاظ على بقائها واستمرار أنظمتها، وفى إطار التحول في رؤيتها الاستراتيجية والتنموية المستقبلية بما يحقق الأمن الخليجي والاستقرار لشعوبها، وموقفها الداعم لاستقرار الدول المجاورة على غرار سوريا ولبنان.
فبالرغم من التهديدات التي شكلتها إيران لأمن دول الخليجية خلال السنوات الماضية من حيث دعم النظام في سوريا، ودعم الأذرع في لبنان والعراق واليمن، وإطلاق الهجمات على الأراضي الخليجية، واحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسي، فإن هناك قناعة خليجية بأن إيران جارة قريبة وهناك روابط تاريخية وثقافية تربط شعوب هذه الدول.
وعليه لن ترغب الدول الخليجية في استمرار مسار التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران، أو اسقاط النظام الإيراني بما يرتب أزمة اقتصادية واجتماعية من حيث تدفق اللاجئين، وينعكس على أمن الدول واستقرارها في ظل مساعيها لتحقيق رؤى تنموية، ولن تنخرط دول الخليج في التصعيد إزاء طهران في ظل استراتيجية خليجية تهدف إلى إعلاء المصالح الوطنية من حيث الاتجاه إلى التنمية والاستقرار وخفض التصعيد، وتنويع أنشطتها الاقتصادية بما يتناسب مع الرؤى الخليجية الطموحة من حيث رؤية السعودية 2030 ورؤية نحن الإمارات 2031، ورؤية قطر 2030.
ختامًا، ستبذل الدول الخليجية جهودها لتهدئة الصراع بين إسرائيل وإيران وتثبيت وقف إطلاق النار تجنبًا لانزلاق المنطقة نحو صراع طويل الأمد مهدد للاستقرار وللرؤى التنموية ولأمن الطاقة، مع رفض خيار مواجهة عسكرية مع دولة عتبة نووية بحجم إيران، وإنما الاقتصار فقط على قيادة جهود الوساطة بشأن العودة إلى طاولة المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة.