تشهد منطقتنا العربية أحداثاً متسارعة ومتلاحقة تضعها على مفترق طرق تاريخي، بين خيار التصعيد الذي قد يقود إلى كارثة إقليمية شاملة، وخيار التهدئة والحوار الذي يمثل الطريق الوحيد للخروج من دوامة العنف والفوضى التي تهدد بابتلاع المنطقة بأكملها.
إن الاستهداف الإيراني الأخير للقواعد العسكرية الأمريكية في بعض الدول المجاورة يعيد إلى الواجهة سؤالاً محورياً طالما تجاهلته الأطراف المعنية: هل يمكن تحقيق الأمن والاستقرار في ظل وجود قوات أجنبية تمارس نفوذها داخل أراضي دول ذات سيادة؟
تاريخ المنطقة العربية يقدم لنا دروساً ثمينة في هذا السياق، فقد أثبتت التجارب المتعاقبة أن الوجود العسكري الأجنبي لم يكن يوماً عاملاً لتحقيق الاستقرار، بل كان دائماً سبباً للتوتر والصراع، فالدول التي سمحت بوجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها للاسف تجد نفسها، عاجلاً أم آجلاً، ساحة لتصفية حسابات القوى الكبرى ومسرحاً لنزاعاتها.
إن مبدأ السيادة الوطنية الذي كرسته المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة ليس مجرد مفهوم نظري، بل هو الضمانة الحقيقية لاستقلال الدول وأمنها، فالسيادة بمفهومها الشامل تعني قدرة الدولة على اتخاذ قراراتها بإرادة حرة، بعيداً عن الإملاءات والضغوط الخارجية، وحقها في منع أي تدخل أجنبي في شؤونها الداخلية، ودون أي انتقاص أو تنازل عن جزء من سيادة اراضيها لقوات اجنيية.
ولعل أهم تجليات السيادة هو سيطرة الدولة الكاملة على أراضيها وعدم السماح لأي قوة أجنبية بإقامة قواعد عسكرية عليها، فالقواعد العسكرية الأجنبية، مهما كانت مبررات وجودها، تمثل انتقاصاً من سيادة الدولة وتحولها إلى هدف محتمل في أي مواجهة إقليمية أو دولية.
إن ما نشهده اليوم من تصعيد متبادل بين إيران والولايات المتحدة يضع الدول العربية المضيفة للقواعد الأمريكية في موقف بالغ الحرج، إذ تجد نفسها مضطرة للاختيار بين ولائها لحليف قوي وحماية أمنها الوطني، وهو اختيار لم تكن لتواجهه لو التزمت بمبدأ الحياد الإيجابي والاعتماد على قدراتها الذاتية في بناء منظومتها الدفاعية.
التهدئة قادمة والمفاوضات حتمية
ورغم حدة التصعيد الراهن، فإن جميع المؤشرات السياسية والدبلوماسية والاستراتيجية تشير إلى أن التهدئة باتت قريبة وأن جميع الأطراف ستجلس حتماً على طاولة المفاوضات في القريب العاجل، فالتحركات الدبلوماسية النشطة خلف الكواليس، والتصريحات المتوازنة الصادرة عن بعض العواصم المؤثرة، والوساطات الإقليمية والدولية الجارية، كلها علامات واضحة على وجود قناعة راسخة لدى جميع الأطراف بأن التصعيد العسكري لن يحقق أهدافه الاستراتيجية، وأن المفاوضات هي المخرج الوحيد من الأزمة الراهنة.
كما أن الضغوط الاقتصادية المتزايدة والتكلفة الباهظة لاستمرار المواجهة تدفع الجميع نحو البحث عن حلول دبلوماسية تحفظ ماء الوجه وتضمن المصالح الجوهرية لكل طر، إن دروس التاريخ تؤكد أن دورة التصعيد الحالية، مهما بلغت حدتها، ستنتهي حتماً بجلوس الأطراف المتنازعة على طاولة المفاوضات، والحكمة تقتضي تسريع هذا المسار وتجنيب المنطقة المزيد من التوتر والاضطراب.
والحقيقة التي يجب أن ندركها جميعاً هي أن أمن المنطقة العربية لا يمكن أن يتحقق إلا بأيدي أبنائها، وأن الاعتماد على القوى الأجنبية لن يؤدي إلا إلى مزيد من التبعية والارتهان، فالمصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، غالباً ما تتعارض مع مصالح شعوب المنطقة وتطلعاتها نحو الاستقرار والتنمية.
إن طريق الخروج من الأزمة الراهنة يبدأ بتهدئة فورية من جميع الأطراف، تليها مفاوضات جادة تضع أسساً جديدة للأمن الإقليمي، قوامها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا يتطلب بالضرورة إعادة النظر في الاتفاقيات العسكرية التي تسمح بوجود قواعد أجنبية على الأراضي العربية، والعمل على استبدالها باتفاقيات تعاون متوازنة تحفظ كرامة الدول وسيادتها.
إن التهدئة ليست خياراً من بين خيارات متعددة، بل هي الطريق الوحيد لتجنيب المنطقة ويلات حرب شاملة لن يكون فيها رابح، فالصراعات، مهما طالت، تنتهي حتماً على طاولة المفاوضات، والحكمة تقتضي تجنيب الشعوب ويلات الحروب والبدء فوراً بالحوار البناء.
ختاماً، نحمد عل على نعمة مصر وجيشها العظيم، كما نطالب جميع الأطراف التحلي بالمسؤولية التاريخية وتغليب المصالح المشتركة للشعوب على الحسابات السياسية الضيقة، فالسلام والاستقرار في المنطقة لن يتحققا إلا باحترام سيادة الدول وحقها في إدارة شؤونها بعيداً عن التدخلات الأجنبية، وبناء منظومة أمنية إقليمية تقوم على أساس المصالح المشتركة والتعاون البناء، بعيداً عن منطق الهيمنة والاستقواء بالقوى الأجنبية.
إن المستفيد الوحيد من استمرار التوتر والصراع في المنطقة هي القوى الخارجية التي تسعى لتكريس وجودها وتوسيع نفوذها، على حساب أمن واستقرار شعوب المنطقة. ولذلك، فإن استعادة السيادة الوطنية الكاملة هي الخطوة الأولى والأهم نحو بناء مستقبل أفضل لشعوب المنطقة.