“ناصيتي بيدك ماضٍ فيَّ حكمك”.. دعاء الاستسلام الكامل لله وتفسيره

في ظل حرص المسلمين على التقرب إلى الله بالدعاء واللجوء إليه في أوقات الشدة والرخاء، يرد كثيرًا في الأدعية المأثورة دعاء يجهل البعض معانيه العميقة رغم تكراره: “ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك”. هذا الدعاء الذي ورد في حديث صحيح عن النبي محمد ﷺ، يعد من أعظم ما يُقال عند الكرب، وهو يتضمن معاني التوكل، والخضوع، واليقين بعدل الله وحكمه.
أصل الدعاء ومصدره
ورد هذا الدعاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:
“اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك…”، وذكر فيه أدعية كثيرة وأوصى به النبي ﷺ من أصابه همٌّ أو كرب.
ويؤكد علماء الحديث أن هذا الدعاء جامعٌ لأصول الإيمان بالقدر، والرضا بالقضاء، والاعتراف بعظمة الله وتفرده بالتصرف في شؤون عباده.
معنى “ناصيتي بيدك”
الناصية: هي مقدمة الرأس، وذكرها هنا مجاز عن كمال التصرّف. والمعنى أن الإنسان يعترف بأن مصيره، وتدبير حياته، وسائر أموره تحت إرادة الله وحده، فهو الذي يوجّهه كيف يشاء، ولا خروج له عن سلطان ربه.
يقول الإمام ابن القيم: “هذا الإقرار هو ذروة الخضوع، لأن الإنسان يعترف أن حركته وسكونه، أمره ونهيه، كلها تحت قهر الله وسلطانه، وأنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا إلا بإرادته سبحانه.”
“ماضٍ فيَّ حكمك”
في هذه الجملة، يتجلى الإيمان بالقدر. فالله عز وجل إذا حكم بشيء على عبده، فإنه نافذ لا محالة. لا مردّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه. سواءً أكان الحكم خيرًا يُفرِح، أو بلاءً يُمتحن به العبد، فالمؤمن يُسلّم لحكم الله، ويعلم أن ما اختاره له ربه خيرٌ مما اختاره لنفسه.
وقد قال بعض العلماء: “من رضي بحكم الله، أنزل الله عليه السكينة، وجعل له في البلاء أجرًا، وفي الصبر رفعًا.
“عدلٌ فيَّ قضاؤك”
هنا تظهر حقيقة عظيمة: أن كل ما يقضي به الله تعالى في عبده، فهو عدلٌ محض، حتى إن لم يفهم العبد الحكمة منه. فالله لا يظلم أحدًا، بل كل ما يجري في الكون يسير وفق ميزان العدل الإلهي الذي لا يختل.
ويشرح الإمام النووي هذه العبارة قائلًا: “العبد يشهد عدل الله، لا يتهم ربه في قضائه، بل يسلم له تسليم العارف بأنه سبحانه أحكم الحاكمين.”
لماذا يُستحب قول هذا الدعاء؟
هذا الدعاء، بحسب ما أوضحت دار الإفتاء المصرية في أحد بياناتها، يُعد من جوامع الكلم، ويُستحب ترديده في أوقات الشدة، وعند طلب التيسير من الله في الأمور الكبيرة. فهو يجمع بين التوحيد، والرضا، والاعتراف بالعجز، والتسليم الكامل لله.
كما أن التوسل فيه بأسماء الله وصفاته فيه دلالة على عمق العقيدة، وحُسن الظن بالله، واليقين بأن كل ما كتبه الله للعبد فهو في مصلحته