دراسة تكشف: الخلفية الاجتماعية تؤثر بعمق على بنية الدماغ وسلوك الشباب

كشفت دراسة جديدة نُشرت في مجلة Nature Neuroscience أن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الإنسان، خاصة خلال مرحلتي المراهقة وبداية الشباب، تترك بصمات واضحة على بنية الدماغ ووظائفه، بل وتمتد لتؤثر على الشخصية والسلوك والصحة النفسية، في خطوة علمية بارزة لفهم العلاقة بين الظروف الاجتماعية والنمو العصبي والسلوكي.
واعتمد الباحثون في هذه الدراسة على بيانات دقيقة لأكثر من 4200 شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا، بهدف تتبع آثار عوامل متعددة مثل دخل الأسرة، ومستوى المعيشة في الحي السكني، والظروف الاقتصادية الإقليمية، على الأداء المعرفي، والخلفية الاجتماعية، والسمات الشخصية، باستخدام تقنيات تصوير دماغي متطورة وتحليل سلوكي معمق.
المراهقة: المرحلة الأكثر تأثيرًا
أظهرت نتائج الدراسة أن الظروف الاجتماعية خلال مرحلة المراهقة تترك تأثيرًا أقوى على الدماغ والسلوك مقارنة بالظروف التي يتعرض لها الفرد في سنوات الطفولة المبكرة، وتشير البيانات إلى أن الفقر أو الإقامة في أحياء ذات موارد محدودة قد يؤديان إلى تغييرات ملموسة في الخلفية الاجتماعية والبنية الدماغية، حيث ارتبط الوضع الاقتصادي المنخفض بانخفاض حجم مناطق مهمة في الدماغ، مثل القشرة الجبهية الوسطى، التي تلعب دورًا أساسيًا في التأمل الذاتي واتخاذ القرار، بينما رُصدت زيادة في حجم المخيخ لدى من نشأوا في ظروف اقتصادية ميسورة، وهو ما يرتبط بقدرات أفضل في الذاكرة العاملة.
الدماغ تحت تأثير الواقع الاجتماعي
الدراسة سلّطت الضوء أيضًا على تغيّرات في بنية المادة البيضاء، وهي الألياف التي تربط بين مناطق الدماغ المختلفة، إضافة إلى تراجع في كفاءة الشبكات العصبية المسؤولة عن التركيز والتنظيم والتخطيط، كما وُجد أن الاتصال الوظيفي في الشبكة الجبهية الجدارية اليسرى وهي شبكة مسؤولة عن الاستجابة للمثيرات المعرفية يتأثر سلبًا بتردي الظروف الاقتصادية، مما قد ينعكس على القدرة على التفكير المنفتح وخوض تجارب جديدة.
تحولات البيئة وتأثيرها على الشخصية
واحدة من أبرز نتائج الدراسة كانت تتعلق بالتغيرات في البيئة الاجتماعية، مثل الانتقال إلى مناطق أكثر تحديًا أو أفقر اقتصاديًا، والتي ارتبطت بزيادة في سمات العصبية والاندفاع، وانخفاض في الانبساطية والانفتاح، وهو ما يعني أن للبيئة المحيطة دورًا عميقًا في تشكيل الشخصية على المدى الطويل.
ولم تكتفِ الدراسة بالملاحظة فقط، بل قدّمت تحليلات توضيحية تُظهر كيف تسهم التغيرات الدماغية في تفسير العلاقة بين الوضع الاجتماعي والسلوك، على سبيل المثال، لوحظ أن انخفاض حجم منطقة الحركة التكاملية في الدماغ له صلة مباشرة بتراجع أداء الذاكرة اللفظية لدى الأفراد القادمين من بيئات أقل حظًا، في حين ساعد الاتصال القوي في بعض الشبكات العصبية على تعزيز سمات إيجابية كالتفكير المنفتح.
نتائج تفتح آفاقًا جديدة رغم القيود
ورغم أهمية ما توصلت إليه الدراسة من نتائج علمية لافتة، أشار الباحثون إلى عدد من القيود التي يجب أخذها بعين الاعتبار، من بينها الاعتماد على بيانات ذاتية قد تكون غير دقيقة، وعدم القدرة على إثبات علاقة سببية مباشرة بسبب تصميم الدراسة الذي يكتفي بالرصد ولا يشمل المتابعة الطولية، كما ركزت الدراسة على مؤشرات دماغية معينة دون التوسع في جميع الآليات العصبية المحتملة.
مع ذلك، فإن هذه الدراسة تقدم دليلاً علميًا متينًا على أن الظروف الاجتماعية ليست مجرد عوامل خارجية، بل تمتد لتشكّل بنية الدماغ وتؤثر في قراراتنا، سلوكنا، وحتى طبيعة تفكيرنا، وهو ما يعزز الدعوة إلى وضع سياسات اجتماعية وتعليمية تستهدف الفئات الشابة، خاصة في البيئات المحرومة، بهدف التدخل المبكر وتحسين جودة الخلفية الاجتماعية والمعرفية للأفراد.