عودة إلى الهدوء: قراءة في نتائج انتخابات كوريا الجنوبية

أعلنت لجنة الانتخابات في كوريا الجنوبية يوم 4 يونيو 2025 عن فوز المرشح الرئاسي للحزب الديمقراطي الليبرالي وزعيم المعارضة “لي جيه ميونج” في انتخابات الرئاسة المبكرة وذلك بعد مظاهر من الفوضى السياسية التي استمرت لعدة أشهر، وقد تقدم لي جيه ميونج على منافسه الأول مرشح حزب سلطة الشعب المحافظ “كيم مون سو”، وبمجرد إعلان فوزه، انتقلت إلى لي جيه ميونج كافة المسئوليات والصلاحيات الرئاسية بشكل فوري، ودون الحاجة لانتظار المرحلة الانتقالية المعتادة بين الرئيس المنتهية ولايته والرئيس المنتخب.
قراءة في النتائج:
شهدت العملية الانتخابية مشاركة واسعة، حيث أدلى 35.24 مليون ناخبًا من أصل 44.3 مليون ناخبًا مؤهلًا للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، أي أن نسبة المشاركة قد بلغت نحو 79.4%، وتعتبر تلك النسبة هي أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية في البلاد منذ عام 1997 حينما بلغت نسبة المشاركة نحو 80.7%، والتي عُقدت في ظل الأزمة المالية الأسيوية في ذلك الوقت، ومنذ ذلك الحين وحتى الانتخابات الأخيرة، ظلت نسب المشاركة أعلى من 70% وأقل من 80%، عدا انتخابات عام 2007 التي شهدت نسبة مشاركة منخفضة بلغت نحو 63% فقط.
حصل مرشح الحزب الديمقراطي “لي جيه ميونج” على نسبة 49.42% أي ما يعادل 17,3 مليون صوتًا، مقابل حصول مرشح حزب سلطة الشعب كيم مون سو على نسبة 41.15% أي ما يعادل 14,4 مليون صوتًا، كما حصل مرشح حزب الإصلاح الجديد “لي جونغ سوك” على نسبة 8.34٪، وحصل مرشح حزب العمل الديمقراطي “كوون يونغ غوك” على 0.98%، بينما حصل المرشح المستقل “سون جين هو” على 0.1٪ فقط.
سياق مضطرب:
عُقدت الانتخابات الرئاسية المبكرة في كوريا الجنوبية وسط حالة من الاهتمام الدولي الواسع، خاصةً أنها جاءت في ظل أوضاع سياسية مضطربة، حيث أعقبت أزمة سياسية غير مسبوقة نتيجة عزل الرئيس السابق “يون سوك يول” على خلفية فرضه الأحكام العرفية في البلاد بشكل مفاجئ في مطلع ديسمبر 2024، وتعكس المشاركة الواسعة للمواطنين في كوريا الجنوبية تزايد الوعي السياسي لديهم بأهمية هذه الانتخابات تحديدًا، لأنها تمثل عنصرًا حاسمًا في تحديد مصير البلاد، خاصة مع الاضطراب الاقتصادي المرتبط بالأوضاع السياسية غير المستقرة.
وبالنظر إلى نتيجة التصويت، والتي جاءت بفوز مرشح المعارضة بفارق كبير عن مرشح الحزب الحاكم الأخير (أي قبل عزل يون سوك يول) نجد أنها بمثابة تصويت عقابي، وكانت كاشفة لطبيعة التوجهات الشعبية واسعة النطاق الرافضة لسياسة الرئيس المعزول يون سوك يول، كذا متبعي سياسته، حيث أن المرشح كيم مون سو هو زعيم حزب سلطة الشعب، الذي سبق وترأسه الرئيس المعزول، يُضاف إلى ذلك قدرة لي جيه ميونج على حشد الناخبين من مختلف التيارات السياسية لصالحه، لا سيما تيار يسار الوسط، في إصرار واضح على رغبته في تحقيق النصر.
فرص وتحديات محتملة:
من المرجح أن تشهد كوريا الجنوبية إعادة تشكيل سياساتها، وبالأخص فيما يتعلق بسياساتها الخارجية، نظرًا لاختلاف التوجهات السياسية بين الرئيس المنتخب لي جيه ميونج وحزبه الديمقراطي وبين سياسة الرئيس المعزول يون سوك يول، ويُتوقع في هذا الإطار استمرار التوجه الخاص بتعزيز العلاقات الكورية الأمريكية، خاصةً مع استمرار التهديد النووي لكوريا الشمالية، وطبيعة التنافس والتوتر الجيوسياسي في منطقة الإندوباسيفيك، وكون الولايات المتحدة الضامن الأمني والمزود الدفاعي الأساسي لكوريا الجنوبية، فخلال الفترة من عام 2020 وحتى عام 2024، حصلت كوريا الجنوبية على 86% من أسلحتها من الولايات المتحدة، وذلك وفقًا لتقديرات SIPRI.
وبالرغم من الاهتمام المتوقع بالعلاقات الكورية الأمريكية، فإن الرئيس الجديد سيكون مهتمًا أيضًا ببناء علاقات ودية مع خصوم الولايات المتحدة، حيث سبق وأن عبر عن انفتاحه على تعزيز علاقة كوريا الجنوبية مع الصين وروسيا، وهو الأمر الذي قد يحمل انعكاسات إيجابية على كوريا الجنوبية في حال تنفيذه، خاصةً على المستوى الاقتصادي، حيث تظل الصين من أهم الشركاء التجاريين لكوريا الجنوبية، فيما قد يتمثل التغيير الأكبر الذي قد تشهده فترة رئاسة لي جيه ميونج في طبيعة علاقات بلاده مع كوريا الشمالية، حيث يُتوقع أن تتشابه السياسات في فترة رئاسته مع فترة الرئيس الأسبق “مون جيه إين”، وحرصه على أن تسود حالة من الاستقرار الأمني بين الكوريتين.
وعلى الصعيد الداخلي، فإنه من المرجح حدوث حالة من الانتعاش الاقتصاد خلال فترة رئاسته، مثل فترة مون جيه إين، والذي كان يرأس أيضًا الحزب الديمقراطي قبل توليه منصب الرئاسة، وقد بدأت بوادر ذلك بارتفاع بورصة كوريا الجنوبية فور الإعلان عن فوز لي جيه ميونج، هذا إلى جانب اهتمام الحكومة الجديدة بالتوصل إلى اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة، وبشكلٍ عام، فإن الاستقرار السياسي المتوقع حدوثه من شأنه أن يُسهم في استرجاع النشاط الاقتصادي وعودة ثقة المستثمرين في كوريا الجنوبية.
في المقابل، قد يواجه لي جيه ميونج مجموعة من التحديات المعقدة خلال فترة رئاسته، والتي ترتبط بالانقسام السياسي الحاد داخل المجتمع الكوري، والذي برز بشكل واسع مع الأزمة التي اندلعت بعد فرض الأحكام العرفية مطلع ديسمبر 2024، مع احتمالية تصاعد التوتر بين التيارات السياسية الكورية المختلفة، وهو ما يرجع إلى عدة عوامل، أبرزها:
الانقسام الكبير بين التيار الليبرالي والتيار المحافظ، وقدرة الأخير على عرقلة تمرير بعض السياسات والقرارات الحكومية داخل الجمعية الوطنية (البرلمان).
تزايد احتمالية استخدام المعارضة للقضايا والتحقيقات التي واجها لي جيه ميونج، والتي تتعلق بتهم فساد، من أجل الطعن في قرارته وصولًا إلى شرعيته، ومع ذلك فإن فوزه سيمنحه حصانة رئاسية ستعلق أي إجراءات قضائية، والتي لن تُستأنف إلا بعد انتهاء فترة رئاسته.
إدراك الرئيس الجديد أن فوزه في الانتخابات لا يعبر بالضرورة عن دعم قوي لسياساته، ولكن تصويت عقابي ضد سياسات الحزب الحاكم السابق، إضافةً إلى أن الأخير لا يزال لديه قاعدة سياسية وتصويتية كبيرة، بدليل أن فوز لي جيه ميونج قد جاء بهامش صغير عن كيم مون سو بنسبة 8% فقط، كما يمتلك حزب سلطة الشعب أكثر من ثلث عدد مقاعد البرلمان، بواقع 108 مقعدًا من أصل 300 مقعدًا.
وفي السياق ذاته، فإن الانفتاح على كوريا الشمالية يظل أمرًا معقدًا، خاصةً مع استمرار التهديدات النووية المتصاعدة من جانب كوريا الشمالية وتوسعها في تجاربها الصاروخية، كما أن سعي الرئيس الجديد لبناء علاقات ودية مع الصين وروسيا قد يتأثر بفعل الضغوط الأمريكية، حيث يمكن للولايات المتحدة توظيف المحادثات والمفاوضات المحتملة بشأن إبرام اتفاق تجاري، كذا علاقتها الأمنية والدفاعية الوثيقة بين الجانبين، وذلك من أجل عرقلة وإضعاف الروابط التجارية بين كوريا الجنوبية والصين بشكل خاص.
وختامًا، فإن الرئيس الكوري الجنوبي أمام مرحلة جديدة، قد تشهد تحولات كبيرة سواء في سياستها الداخلية في محاولة لكسب ثقة المواطنين في أعلى منصب في كوريا الجنوبية وتحقيق الاستقرار الداخلي، بعد فترة من الاضطراب السياسي والاقتصادي، أم في سياستها الخارجية والوصول إلى نقطة توازن في علاقتها مع القوى الكبرى المتنافسة، خاصةً الولايات المتحدة والصين، لكن تحقيق ذلك الأمر لا يزال موضع شك، لا سيما إذا تبنت الولايات المتحدة سياسات مضادة تجاه كوريا الجنوبية.