عاجل

ما حكم أداء الحج من المال الناتج من العقود الفاسدة؟ دار الإفتاء توضح

الحج
الحج

يتوافد ملايين المسلمين من شتى بقاع الأرض إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، طامحين إلى مغفرة شاملة وتطهير للذنوب، ومتحرّين قدر الإمكان أن يكون حجهم خالصًا لله، ومقبولًا عنده. وبينما يستعد البعض لهذه الرحلة الإيمانية الكبرى، يثور في أذهان آخرين سؤال دقيق لكنه بالغ الأهمية: هل يجوز أداء فريضة الحج بمالٍ جُمع من معاملات يشوبها الفساد أو الحُرمة الشرعية

وفي هذا السياق أجابت دار الإفتاء المصرية أنه يجوز ذلك؛ لأن السادة الحنفية يرون أن العقود الفاسدة بين المسلم وغير المسلم في ديار غير المسلمين تُعد صحيحة شرعًا، وبناءً عليه فإن المال الناتج عنها يُعتبر مالًا حلالًا طيبًا،

مناسك الحج
مناسك الحج

 
العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين وفق المذهب الحنفي

فهذه مسألة قديمة تطرّق إليها فقهاء الإسلام، ويُستفاد منها اليوم في النوازل التي يواجهها المسلمون في واقعهم المعاصر. وبحسب ما قرره فقهاء المذهب الحنفي، خاصة ما اختاره الإمامان أبو حنيفة ومحمد بن الحسن – على خلافٍ مع الإمام أبي يوسف – فإن المسلم إذا وجد في ديار غير المسلمين، جاز له أن يتعامل معهم حتى بالعقود التي تُعدّ فاسدة في الأصل، كالقمار أو الربا أو بيع الميتة والخمر، بشرط أن يتم ذلك برضا الطرف الآخر ومن غير غدر.

يقول الإمام محمد بن الحسن:
“إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فلا بأس أن يأخذ أموالهم برضاهم بأي وجه كان”.

تسمية “دار الحرب” والمقصود منها

وصفُ فقهاء المذهب الحنفي لبلاد غير المسلمين بـ”دار الحرب” كان نابعًا من واقع تاريخي معيّن؛ حيث كانت أغلب الدول في زمانهم في حالة عداء فعليّ مع المسلمين، فكان التقسيم الفقهي وقتها إلى “دار الإسلام” تُقام فيها الشعائر ويُطبق فيها الشرع، و”دار الحرب” تُغيب فيها الأحكام الإسلامية ولا يظهر فيها الإسلام.

أما اليوم، وبعد أن زالت حالة الحرب العامة مع غير المسلمين، فالأدق أن تُسمّى هذه البلاد بـ”ديار غير المسلمين”، وهي وإن كانت لا تُقام فيها أحكام الشريعة، إلا أن الحرب فيها ليست قائمة، ومع ذلك فإن الأحكام التي قررها فقهاء الأحناف بشأن المعاملات المالية في تلك الديار لا تزال تُستفاد منها، لأنها لم تُبْنَ على الحرب بذاتها، بل على غياب سلطان الشريعة.

وهذا المعنى واضح عند الحنفية، إذ أكثر أدلتهم مستقاة من مواقف وقعت في مكة قبل الهجرة، وهي لم تكن دار حرب فعلية، وإنما دار كفر لا تُطبق فيها أحكام الإسلام.

ومن كلام الإمام محمد رحمه الله:
“ولو أن المستأمَن منهم باعهم درهمًا بدرهمين إلى أجل، ثم خرج إلى دارنا ثم رجع إليهم، أو خرج ثم عاد إليهم في نفس العام، وأخذ الزيادة بعد حلول الأجل، فلا بأس بذلك”.

توثيق المذهب وعبارات الأئمة

جاء في “المبسوط” للعلامة السرخسي بعد ذكره حديث مكحول:
“لا ربا بين المسلمين وأهل دار الحرب في دار الحرب”، أنه استدل به أبو حنيفة ومحمد على جواز بيع المسلم للحربي الدرهم بدرهمين، وبيع الميتة والخمر والقمار، طالما لا غدر في ذلك. وهذا القول هو المعتمد في المذهب.

كما جاء ذلك صريحًا في كتب الأئمة الحنفية، مثل:
• المرغيناني
• الكمال بن الهمام
• العلامة الحصكفي
• ابن عابدين

فقد قرروا جميعًا أن:
“لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، ويجوز للمسلم أن يأخذ مال الحربي بأي وجه، ما دام بغير غدر”.

ومع أن ظاهر كلامهم يعمُّ أخذ الربا وإعطاءه، إلا أن الكمال بن الهمام نبّه إلى أن الحكم في الدروس قُيّد بما إذا كانت الزيادة للمسلم، أي: أن الجواز مرهون بحصول المسلم على الفائدة، لا أن يخسر لصالح الحربي. ونقل ابن عابدين هذا التقييد، ومع ذلك، فيجوز التمسك بظاهر المذهب عند وجود مصلحة راجحة للمسلم، حتى لو كان فيها دفع للزيادة.

أدلة الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار غير المسلمين

استدل فقهاء الحنفية على هذا القول بعدة أدلة:
1. مرسل مكحول: «لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب»، قال السرخسي: وإن كان الحديث مرسلاً، فمكحول فقيه ثقة، والمرسل من مثله مقبول.
2. حديث بني قينقاع وبني النضير: لما قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إخراجهم إن لهم ديونًا لم يحل أجلها، فقال لهم: «تعجلوا أو ضعوا» – وهي صورة من صور الربا الممنوع بين المسلمين، لكنه أجازه هنا لأنهم كانوا أهل حرب.
3. مصارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لركانة: حيث راهنه على الغنم فغلبه، وأخذ الغنم منه، ثم ردّها عليه تطوعًا. وكانت مكة حينئذٍ دار كفر لا دار حرب، ما يدل على جواز القمار حينها.
4. حديث وضع ربا الجاهلية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس»، ومعروف أن العباس كان يربي في مكة بعد إسلامه، ولم يُنهه النبي عن ذلك، مما يفيد الجواز قبل أن تصير مكة دار إسلام.
5. مقامرة أبي بكر مع مشركي مكة في مسألة غلبة الروم، وهو قمار صريح، وقد أجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وكانت مكة حينها دار كفر.
6. القياس على الغنيمة: فإن مال غير المسلمين مباح عند الغلبة، فجاز أخذه بالرضا دون غدر، لحرمة الغدر.

الربط بين المذهب الحنفي والمذاهب الأخرى

وينبغي للقارئ أن يعلم أن للمذاهب الأخرى قواعد يُمكن الاستناد إليها في مثل هذه المسائل، منها:
1. جواز تقليد من قال بالجواز في حالات الابتلاء والضرورة، كما قرر ذلك الشيخ البيجوري:
“من ابتلي بشيء من ذلك فليقلد من أجاز”.
2. عدم الإنكار في المسائل المختلف فيها، كما قال السيوطي:
“لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما يُنكر المجمع عليه”.
3. التمييز بين الحكم الفقهي وحدّ الورع: فالورع أوسع نطاقًا، وقد يترك الإنسان المباح تورعًا، دون أن يعني ذلك تحريمه. وهذا ما فعله كثير من الصحابة الذين تركوا تسعة أعشار المباح ورعًا

تم نسخ الرابط