تحولات هيكلية: 4 سيناريوهات لمستقبل الأوضاع في السودان

شهد السودان تطورات عسكرية وسياسية خلال الفترة الأخيرة، حيث حقق الجيش السوداني سلسلة من الانتصارات العسكرية الميدانية ضد ميليشيات الدعم السريع، في المقابل حدث تطور نوعي في عمليات الأخيرة، برز خلاله التوسع في استخدام الطائرات المسيرة في توجيه ضربات مؤثرة للبنية التحتية خاصة بمدينة بورتسودان، فيما تواجه البلاد تحديات جديدة مع فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية وسياسية.
المشهد العسكري الراهن:
ووفقًا لدراسة أعدها المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، يتسم المشهد العسكري الراهن بنجاح القوات المسلحة السودانية في تحقيق عدة نجاحات عسكرية على الأرض خلال الفترة الأخيرة، حيث استعادت السيطرة على معظم الولايات السودانية بشكل كامل من أبرزها الآتي:
أعلن الجيش السوداني مؤخرًا في 20 مايو 2025 عن اكتمال “تطهير” ولاية الخرطوم وخلوها تمامًا من قوات الدعم السريع، في تطور ينقل الحرب المستمرة بين الجانبين منذ أكثر من عامين إلى “مرحلة جديدة”.
إعلان قوات العمل الخاص التابعة للجيش السوداني عن “خلو” ولاية النيل الأبيض المجاورة للخرطوم من أي وجود للدعم السريع وذلك عقب بسط القوات المسلحة السودانية سيطرتها على منطقة العلقة في محلية أم رمتة والبدء في مطاردة عناصر ميليشيا الدعم السريع التي تراجعت إلى شمال كردفان.
تمكنت القوات المسلحة السودانية من تحقيق الربط العسكري بين ولايتي الخرطوم والنيل الأبيض ومطاردة ميليشيا الدعم السريع وصولًا إلى إقليم كردفان، كما أكد المتحدث العسكري على عزم القوات المسلحة على مواصلة العمليات العسكرية حتى استعادة السيطرة الكاملة على جميع مناطق البلاد.
لم تقتصر انتصارات الجيش على العاصمة الخرطوم، حيث سبق تحرير مناطق أخرى، منها: استعادة معظم مدن ولاية سنار مطلع أكتوبر 2024، واستعادة السيطرة على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة في يناير 2025، وأعقب ذلك تحرير الولاية بالكامل.
وتُثير هذه التطورات تساؤلات جادة حول اتجاه الصراع في إقليم كردفان، الذي أصبح مسرحًا استراتيجيًا للعمليات العسكرية بين طرفي الصراع، فنتيجة للنجاحات العسكرية للجيش السوداني في الخرطوم والنيل الأبيض، فقد تراجعت ميليشيات الدعم السريع نحو إقليم كردفان لدعم قواتها المتمركزة بالإقليم والحد من فرص تراجعهم أمام قوات الجيش السوداني الذي يسعى إلى السيطرة على المدن والطرق الرئيسية في الإقليم تمهيدًا لتطهيره من عناصر الدعم السريع والحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو وبما يقطع خطوط إمداد الدعم السريع وعزل إقليم دارفور تمهيدًا للمعركة الفاصلة في مناطق السيطرة الرئيسية للدعم السريع بولايات دارفور.
وقد استثمر الجيش السوداني هذه الانسحابات ونجح في السيطرة على عدة مناطق (الطريدة، والدكة، والدبيبات، وأم دحيليب، والحمادي) بجنوب كردفان، والسيطرة على مدينة الخوي بغرب كردفان خلال الأسابيع الأولى من شهر مايو 2025.
تحركات مقابلة:
نجحت ميليشيات الدعم السريع في استعادة السيطرة على عدد من المناطق الاستراتيجية في ولايتي غرب وجنوب كردفان في يومي 30 و31 مايو، وذلك عقب نجاحها في إمداد قواتها الموجودة في الإقليم بتعزيزات عقب سحب أعداد كبيرة من قواتها التي كانت متمركزة حول مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور ودفعها لدعم قواتها في إقليم كردفان، مع استهداف مركز القيادة والسيطرة للقوات المسلحة السودانية العاملة بالإقليم بمدينة الخوي بطائرة مسيرة يوم 30 مايو الأمر الذي أدى إلى مقتل عدد من القيادات، منهم قائد القوات السودانية العاملة في الإقليم اللواء “إيهاب محمد يوسف” (مدير إدارة نظم المعلومات والإحصاء بالقيادة العامة، وقائد سلاح الإشارة بالإنابة)، وشملت المناطق التي أعلنت الدعم السريع السيطرة عليها: الحمادي، وكازقيل، والخوي في غرب كردفان، والدبيبات في جنوب كردفان، بينما انسحبت القوات المسلحة السودانية والقوة المشتركة شمالًا باتجاه مدينة الأبيض ومنطقة أم عردة، كما كثفت ميليشيات الدعم السريع من استخدام المسيرات بعيدة ومتوسطة المدى بشكل متواصل خلال المعارك في إقليم كردفان واستهداف مواقع ودفاعات القوات المسلحة وبعض المنشآت في مدينة الأبيض.
مسارات متداخلة:
شهدت العمليات الجوية العسكرية بين الجانبين تطورًا نوعيًا، حيث اعتمدت ميليشيات الدعم السريع بعد الخسائر في العمليات البرية على الضربات بالطائرات المسيرة واستهداف البنية التحتية خاصة محطات توليد الكهرباء ببعض الولايات السودانية.
وقد أدى ذلك إلى قيام الجيش السوداني باستهداف مطار نيالا في ولاية جنوب دارفور الذي يمثل قاعدة الإمدادات العسكرية للدعم السريع، بغارة جوية يوم 2 مايو 2025، أسفرت عن تدمير مخازن أسلحة وذخائر بالإضافة إلى طائرة شحن أجنبية كانت محملة بإمدادات عسكرية ومسيرات، في خطوة تهدف إلى محاولة تقليص الدعم العسكري الخارجي لميليشيات الدعم السريع، خاصةً في مجال الطائرات المسيرة والمعدات العسكرية، وبما يحد من قدراتها وتسريع قدرة القوات المسلحة السودانية في تحقيق السيطرة الميدانية على باقي الأراضي التي يسيطر عليها الدعم السريع.
وقد ردت ميليشيات الدعم السريع باستهداف مدينة بورتسودان بسلسلة من الهجمات الجوية نُفذت باستخدام طائرات مسيرة استراتيجية وسط تقارير تفيد بأنها من طراز “FH-95” الصيني الصنع، بشكل يومي، اعتبارًا من يوم 4 مايو حتى يوم 6 مايو 2025، وقد أسفرت الهجمات عن الآتي:
تدمير مخزون ضخم من المواد البترولية نتيجة استهداف المستودعات الاستراتيجية بالمدينة، وتدمير نحو 60% من قاعدة “عثمان دقنة” الجوية.
استهداف قاعدة “فلامنجو” البحرية التابعة للقوات المسلحة السودانية ومطار بورتسودان الدولي، وعدد من المرافق الخدمية من بينها محطة الكهرباء الرئيسية في بورتسودان.
تطورات مفصلية:
تشير مجمل التطورات المشار إليها سابقًا إلى ما يلي:
التحول النوعي في مسار الحرب في السودان، خاصةً في مجال وسائل وأساليب القتال حيث تحول الاستخدام من عنصر تكتيكي إلى استراتيجي بما شكل تهديدًا للحكومة السودانية في مناطق سيطرتها، كما يشير هذا التطور إلى عدم استبعاد أن يكون خلف تصعيد (الدعم السريع) هجماته بالطائرات المسيرة قوى خارجية، من خلال توفير هذه الإمكانات والقدرات العسكرية ذات التقنية المتقدمة لتنفيذ ضربات بهذا المستوى من الدقة والتعقيد.
من دراسة الأوضاع العسكرية بالسودان ومناطق سيطرة الجانبين على الأرض، يبرز عدم وجود معلومات تشير إلى سيطرة ميليشيات الدعم السريع على قواعد جوية أو مدرجات طيران قريبة من مدينة بورتسودان في مدى عمل الطائرات المسيرة “FH-95” والذي يبلغ حوالي (200 كم إلى 250 كم)، الأمر الذي قد يشير إلى احتمالات تنفيذ تلك الهجمات من خلال منصات إطلاق متنقلة أو من خلال منصات خارج حدود السودان بدعم من بعض القوى الخارجية (أرضية / من قطع بحرية).
تطور العمليات الجوية لتشمل بورتسودان، وهو الأمر الذي قد يدفع الجيش السوداني إلى تغيير خطط عملياته والتي كانت تستبعد منطقة شرق السودان وتعتبرها منطقة أمنة، وذلك بتعزيز الدفاعات الجوية واستخدام تقنيات الحرب الإلكترونية، بالتوازي مع تكثيف الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية لرصد منصات إطلاق المسيرات، وشن عمليات جوية / برية لتدميرها في عمق دارفور أو كردفان.
سيناريوهات تطور الموقف:
السيناريو الأول (الحسم العسكري):
استمرار القوات المسلحة السودانية في التحرك العسكري على الأرض تجاه إقليم كردفان واستعادة السيطرة على باقي المناطق في الإقليم، وبما يؤدى إلى عزل إقليم دارفور تمهيدًا لاستكمال السيطرة عليه وإعلان السيطرة على كامل الأراضي السودانية، وهو سيناريو مرجح، إلا أنه في التقدير نجاح القوات المسلحة السودانية على المدى القريب في السيطرة على معظم المناطق الاستراتيجية بإقليم كردفان خاصةً المدن والطرق الرئيسية التي تربط الإقليم مع إقليم دارفور، إلا بعد تحييد أنشطة الطائرات المسيرة للدعم السريع.
السيناريو الثاني (استمرار الصراع واتساعه):
استمرار سيطرة الدعم السريع على المناطق المتمركز بها في إقليمي كردفان ودارفور، والتوسع في استخدام الطائرات المسيرة الاستراتيجية واستهداف المناطق الاستراتيجية بالخرطوم وبورتسودان بدعم خارجي، مما قد يفتح الأبواب لاتساع رقعة الصراع، وتحوله من صراع داخلي ليصبح صراع إقليمي، وتتسم احتمالات تحقق هذا السيناريو بالمحدودية.
السيناريو الثالث (عودة المفاوضات بين طرفي الصراع):
تكثيف التحركات الدبلوماسية الإقليمية والدولية لوقف إطلاق النار بين طرفي الصراع، والعودة للمفاوضات، لحل الصراع سلميًا في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية في السودان. إن احتمالات تحقق هذا السيناريو مرتفعة، وتتوقف على قدرة القوى الإقليمية والدولية في الضغط على طرفي الصراع خاصةً من خلال التوسع في فرض العقوبات عليهم، بالإضافة إلى الموقف العسكري على الأرض ومدى نجاح العمليات البرية في إقليمي كردفان ودارفور.
السيناريو الرابع (التقسيم):
عدم قدرة القوات المسلحة السودانية على استعادة السيطرة في إقليم دارفور، مع فشل محاولات التسوية السلمية للصراع، الأمر الذي قد يؤدى إلى قيام الدعم السريع بدعم خارجي إلى اتخاذ خطوات فعلية نحو تشكيل حكومة في إقليم دارفور والإعلان من جانب واحد عن انفصال الإقليم عن دولة السودان مع اعتراف بعض القوى الخارجية بذلك، وهو سيناريو محتمل وقد يحمل العديد من المخاطر على استقرار الدولة السودانية.
وختامًا، تُشكل التطورات الأخيرة في السودان مفترق طرق حاسم في مسار الصراع الدائر، فمن ناحية، حقق الجيش السوداني انتصارات ميدانية مهمة أعادت له السيطرة على العاصمة وعدة مناطق استراتيجية، ومن ناحية أخرى، تواجه البلاد تحديات جديدة مع فرض العقوبات الأمريكية التي قد تعيق التقدم العسكري وتزيد من معاناة الشعب السوداني، ويبقى السؤال الأكبر هو مدى قدرة الجيش على تحويل انتصاراته العسكرية إلى فرض حل سياسى شامل ينهي الصراع ويعيد الاستقرار إلى البلاد، خاصةً في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية المتزايدة.