لم تكن زيارتي الخاطفة لمولد سيدي عبدالله الغريب بالسويس في الليلة الختامية، سوى نفحة من النفحات كما يصفها عباد الله من الصوفية. اجتمع لي خلالها تجاذب روحي وأنا أحاور شيخًا ثمانيني لم يمنعه شيبه من أن يكون مبادرًا بالسؤال عن قارئ مصري لم يشتهر في وطنه قدر ما عرفه أهل العراق رغم عذوبة صوته، وبينما أنا والمحيطين بي في حيرة من الأمر إذ به يحدثنا عن هذا القارئ وكيف أن دولة التلاوة المصرية معين لا ينضب وأن ما عُرف منها نذر يسير عما غُفل.
لم يتوقف الشيخ السينائي عند حد الحكمة في الحديث وحدها؛ بل بادر إلى التعريف بالتصوف والعقل والروح والحب والولي وغيرها من المصطلحات التي يحبذ الصوفية الغوص في أعماقها، وقبل أن أنطق باغتني بقوله: «هل يعقل من لا عقل له؟»، استفهام لم يكن في قناعتي موفقًا فالعقل عندي هو أصل الأمانة التي حملها الإنسان بصفة عامة وأنه متساوٍ في حظه منه كما جاء في سورة الأحزاب وتفسير الأمانة التي عرضها الله سبحانه وتعالى على السموات والأرض والجبال فكان الإنسان مرحبًا بما سيكلف به وفق تلك الأمانة.
وقبل أن يواصل حديثه تساءلت: هل العقل عضو؟، هل يمكن أن يكون كالروح أو جزءً منها أو مكملًا لها؟؛ وهي جملة من الأسئلة المشروعة لمن يبحث عن حقيقة جسده التي لطالما أشاع البعض بأحقيته دون سواه أن يكون له الفكر والتعليل. مشهد لم يتوقف أن يتكاثر العلماء إلى حضوره واحدًا تلو الآخر، كل يدلي بدلوه، ومع عبقرية الحوار وجدت في عقلي شرودًا. هل المجنون في نظرنا حقًا من فقد عقله! كيف يكون الشاب الذي يعرب عن سخطه لقرارات وأعباء فرضت عقب ذهاب عقله وشروده في نظرنا؟!
نصف نحن العقلاء -كما نتوهم- من تحرر من قيود الواقع بالمجنون في حين يباغتنا المثل الشعبي «خذوا الحكمة من أفواه المجانين»، ولست أدري كيف يكون مذهوب العقل حكيمًا وهل الحكمة شيء لا يتطلب معه عقل في نظر من ضرب الأمثال قديمًا؟!
كيف يكون للمجذوب -وهو الرجل الذي يتمتم بالكلمات في المساجد والأزقة- محل إعجاب واهتمام بل يصل الأمر لأن يكون المجذوب عنوانًا للزاهد الصوفي؟، أسئلة ربما لم أجد جوابها من الشيخ الكبير على فطنته وحكمته لكنها كانت سبيلًا لأن أتجاذب الحديث مع آخر باحثًا عن ماهية العقل، حوار جعل من يقف أمامي يهتدي لضالته في حيرة الأشهر والسنين، لكنها زادت في الوقت نفسه من حيرتي نحو «العقل».
قد يتوهم البعض أن الروح هي وحدها اللغز المحير في الإنسان وهو مخطئ، فالعقل الذي يروج البعض لحقه في إطلاق العنان والتساؤل كيفما شاء والحكم على أي شيء كان، لا يكد أن يكون محدودًا قد يصير في لحظة بحر عميق يسبق الطبيعة ونواميسها تارة بالإعجازوتارة بالعجز.