عاجل

فى كل مرة يلامس فيها النسيم ضفاف النيل ، تُروى قصة أمة لم يكتبها الزمان فحسب ، بل حفرها فى الوجدان الإنساني ، إنها مصر التي لم تُخلق لتكون مجرد رقعة جغرافية ، بل رسالة خالدة فى كتاب الحضارة ، تُتلى على مر العصور ولا تُبلى.

منذ فجر التاريخ ارتفعت مصر فى علياء المجد ، لا تستمد عظمتها من الحجارة التي بُنيت بها أهراماتها ، ولا من المعابد التي تزينت بها ضفاف نيلها ، بل من روح الإنسان الذي صنع كل ذلك بإرادة الخلود ، المصري القديم الذي لم يكن عاملًا فى ورشة التاريخ بل كان مؤسسًا له وصانعًا لفصوله.

ننظر إلى الأهرامات فنراها لا كأبنية ضخمة فحسب ، فتلك الكتل الحجرية التي تبلغ الملايين لم تكن مجرد مقابر ملوك ، بل شهادة على أن مصر كانت منذ آلاف السنين تعرف معنى الإعجاز ، وتُجيد تحويل المستحيل إلى واقع ، وكيف لا وقد صممت وكأن من قام ببنائها لا ينتمي لعصره.

ولئن كانت الشمس تشرق كل يوم على الأرض ، فإنها مرتين من كل عام تتوقف لتُلامس وجه "رمسيس الثاني" عندما تنفذ أشعتها إلى قدس الأقداس فى معبد "أبي سمبل" وتضيء وجه الملك ، كما لو أنها تصافح حضارة لا تتكرر فى مشهد يُبهت فيه الزمان وينحني المكان ليؤكد أن مصر ليست مجرد حضارة ، بل إيقاع كوني دقيق لا يعرف العبث.

وفى زمن لم تكن فيه للمجتمعات القديمة مؤسسات صحية بالمعنى المفهوم ، كان المصري القديم يكتب وصفاته الطبية على أوراق البردي ، ويمارس الجراحة ويعالج الأمراض برؤية علمية فاقت حدود عصره. والمهندس المصري "إمحتب" الذي قام ببناء هرم الملك "زوسر" بسقارة لم يكن مهندسًا فقط ، بل كان عبقريًّا فى الطب ومستشارًا ملكيًا وفيلسوفًا ، حتى بات معبودًا للشفاء فى بعض مراحل التاريخ ، فهو ابن مصر التي انجبت العقول صاحبة هذه الحضارة العظيمة.

وداخل المقابر والمعابد حيث لا يسكن الصمت بل تتكلم الأعمدة وتتنفس الجدران ، وتحمل النقوش رسائل إلى من سيأتي ، وتخبره أن الفن فى مصر لم يكن ترفًا ، بل عقيدة تُمارس، ووعيًا يُبنى ، ونقرأ فى كل ضربة إزميل عشقًا للتفاصيل وإيمانًا بأن الخلود لا يكون بالكلمات وحدها ، بل بالأثر الذي لا يزول.

وفى قلب هذه الملحمة الحضارية تقف المرأة المصرية شامخة ، لا على الهامش بل فى القلب من التاريخ ، من "حتشبسوت" التي حكمت بحكمة الملوك ، إلى "نفرتيتي" التي شكلت أيقونة للجمال والسياسة ، إلى "كليوباترا" التي حيرت الإمبراطوريات بذكائها ودهائها ، فلم تكن المرأة في مصر القديمة تابعًا ، بل كانت قائدة وسيدة دولة وشريكة حضارة.

فكيف لمصر التي وقفت عبر القرون كمنارة للعلم والفن والإيمان ، أن تكون إلا أمًا للتاريخ وأيقونة للحضارة؟ إننا لا نتحدث عن أمجاد ماضية نتغنى بها ، بل عن جذور نعيشها ، وهوية ما زالت تنبض فى كل حجر وقطرة ماء ونسمة هواء تهب على ضفاف النيل ، فمصر ليست قصة من الماضي بل وعد بالمستقبل ، تُخاطب العالم باعتزاز فتقول لكل من أراد أن يعرفها: "أنا التي سبقتكم إلى النور ، فأدركوا أني لا أُقارن ، بل أُستلهم."

تم نسخ الرابط