عاجل

أدرك المصري القديم مبكرًا أن التعليم ليس مجرد رفاهية، بل هو السبيل الحقيقي إلى الخلود والمجد. كان يؤمن بأن الكلمة المكتوبة لا تموت، فشرع في بناء منظومة تعليمية متكاملة تُعِد الإنسان لدور فعال في مجتمعه، وتغرس فيه الوعي والمسؤولية، ليصبح لبنة راسخة في صرح الحضارة المصرية العريقة. فقد بقي نور التعليم متألّقًا بين أعمدة المعابد الشامخة وأهرامات الجيزة ومقابر الملوك، كما بقي سر النهضة الذي غرس جذور المعرفة والحكمة والنظام في أرض الكنانة.

لم تكن قاعات العلم في مصر القديمة حكرًا على أبناء الطبقة العليا. بل كانت أبوابها مفتوحة أمام كل من يحمل رغبةً صادقة وشغفًا للتعلم. ومن "بيت الحياة"، المدرسة الرسمية الشهيرة، انطلق النشء يتعلّمون القراءة والكتابة، ويؤهلون أنفسهم بحفظ النصوص الدينية والغوص في العلوم والرياضيات والفلك. وحرص المعلمون على غرس قيم الدقة والصبر في نفوس التلاميذ، مدركين أن هذه الركائز لا غنى عنها لكل عاشق للمعرفة.

وقد وثقت تعاليم الحكماء هذه الرؤية الفذة، فها هو الحكيم المصري القديم "آني" يوصي ابنه قائلاً: "ليكن الكتاب صديقك والكاتب أباك، فإنك بالعلم تسمو وتُذكر، وإنك بالجهل تُنسى وتُهمل."

وكان للكتبة في مصر مكانة رفيعة بين أبناء المجتمع، فهم عصب الإدارة وعقل الدولة وروح حضارتها. لم يكن منصب الكاتب مجرد وظيفة، بل بوابة إلى المناصب العليا في الإدارة، والدبلوماسية، والجيش، ودور العبادة. وعلى أيدي هؤلاء الكتبة، حقق المصريون إنجازات علمية سبقت عصرها في علوم الرياضيات باستخدام العمليات الحسابية المعقدة والكسور، وفي الهندسة بتخطيط الأراضي وإقامة المباني الضخمة، وفي الطب بإبداعهم في الجراحة وطب الأسنان، حتى خلدوا معارفهم في برديات مثل "بردية إيبرس" التي بقيت حتى اليوم مصدر دهشة وإلهام. أما في الفلك، فقد تفوقوا في رسم السماء ووضعوا تقويماً سنويًا دقيقًا لتحديد المواسم الزراعية والأعياد.

وكان الكهنة في مصر القديمة علماء حقيقيين وفلاسفة كبارًا، يجمعون بين الروحانية والعقلانية، ويؤمنون بأن الحكمة نور، ومن يسلك طريقها يرى وجه الإله. فلقد كانت المعرفة عندهم مرتبطة بالعقيدة، وطريقًا لفهم أسرار الكون وعمارة الأرض فيما يرضي إرادة الآلهة. وعلّمنا الحكيم بتاح حتب أن "الجاهل يُغني صوته، أما الحكيم فيغني علمه"، ليضع مصر القديمة بين الأمم التي تقدّر الفكر العميق على الصوت العالي، وتقيس قيمة الإنسان بما يحوزه من علم لا بما يملكه من جاه أو مال.

وها هو تراث المصريين القدماء لا يزال حيًا بيننا، ليس فقط فيما نقشوه على جدران المعابد، وإنما في تلك القيم الأصيلة: الشغف بالتعلم، والبحث عن الحقيقة، وتقدير الفكر والمعرفة. وإذا كنا نطمح إلى نهضة حقيقية في حاضرنا، فإن الطريق واضح كالشمس، يبدأ من حيث بدأوا: بالكلمة والمعرفة والتعليم.

تم نسخ الرابط