عاجل

حين رست سفن الحملة الفرنسية على شواطئ الإسكندرية عام 1798، بدا وكأن العالم القديم يُفتح من جديد أمام العيون الأوروبية. قيادة عسكرية برئاسة "نابليون بونابرت" وأحلام احتلال إمبراطورية، لكن خلف صورة الجنود والمدافع، كانت هناك مغامرة علمية فريدة من نوعها، قوامها أكثر من 160 عالمًا وفنانًا ومهندسًا. هؤلاء لم يأتوا لمجرد مرافقة الجيش، بل حملوا في قلوبهم رغبة حقيقية: اكتشاف مصر، وفهم روحها، وتوثيق عبقريتها.

منذ لحظات وصولهم الأولى، اصطدم علماء "لجنة العلوم والفنون" بحقيقة لم تكن في حسبانهم. فرغم تصوراتهم المسبقة، لم تكن مصر مجرد صحراء تسكنها أطلال غامضة، بل وجدوا أنفسهم أمام حضارة أبهرت العالم في وسائل البناء والفكر والكتابة، وبهروا عند معاينة آثار الجيزة وسقارة، والانبهار الأكبر جاء بينهم وهم يتجولون بين أعمدة الكرنك العظيمة.

"وقفت أمام الأعمدة لا أصدق أن الإنسان هو من أقامها"، هكذا دوّن الرسام الشهير "فيفانت دينون" مشاعره في وصف معبد الكرنك. أذهله ما شهدته عيناه، وقارن دون تردّد بين جلال هذا البناء وروائع أوروبا كلها، ليجد دون شك أن مصر تتفوّق على ما قرأوه عن اليونان والرومان. ليست مصر "أرض الفراعنة" فحسب، بل أماً لكل حضارات البشر.

هذا الانبهار العميق لم يكن عابرًا، بل تحوّل إلى مشروع علمي هو الأضخم في عصره: موسوعة "وصف مصر". صفحاتها ومجلداتها رسخت وصفًا دقيقًا للمعابد والأهرامات والتماثيل والنقوش، وامتلأت برسومات لم يسبق لها مثيل في الدقة والجمال. لقد وثّق العلماء كل حجر، وكل جدارية، واضعين أمام الإنسانية للمرة الأولى كنزًا معرفيًا عن حضارة ضاربة في عمق التاريخ.

في مقدمة هذه الموسوعة العظيمة كتب أحد علماء الحملة: "لم نأتِ إلى مصر فقط لنرسم حدودها الجغرافية، بل لنكتشف روحها التي لا تزال حية في حجارة معابدها ونقوش جدرانها وأسرار مقابرها." هكذا حملت كلماتهم تقديراً لما رأوه من عبقرية، لم تقف عند جمال الفن وحده، بل كشفت عن تقدم علمي وهندسي عجز العالم الغربي عن مجاراته آنذاك.

ولعل أكثر ما غيّر مسار علم التاريخ، اكتشافهم حجر رشيد عام 1799، على يد أحد ضباط الحملة. هذا الحجر العجيب أضحى لاحقًا مفتاح سر اللغة المصرية القديمة بفضل جهود "شامبليون"، ليبدأ مع ذلك ميلاد علم المصريات، وعودة مصر القديمة إلى وعي الإنسانية.

لقد جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر تحمل سيوفها، لكنها عادت بعقول مأخوذة بحضارة أسرها رونقها. لقد غيرت التجربة نظرة الأوروبيين إلى مصر وماضيها، وأصبحت أبنية مصر وآثارها كتابًا مفتوحًا أمام العالم، يغري كل من يقرأه بالمزيد من البحث والدهشة. كما عبّر أحد علماء الحملة في عبارة خالدة: "كنا نظن أننا جئنا لنغزو مصر، فإذا بها هي من غزت عقولنا واحتلت قلوبنا".

هكذا، لم تكن رحلة الفرنسيين إلى مصر مجرد حملة من حملات التاريخ، بل كانت قصة انبهار عابرٍ للقرون، ومفتاحًا لاكتشاف الذات الإنسانية في أقدم حضارة عرفها الإنسان.

تم نسخ الرابط