منذ سنوات طويلة ، وجدت في داخلي انجذابا غامضا نحو الفن الشعبي بكل ألوانه وتناقضاته ، أغانيه ، أمثاله ، عاداته ، وحتى تدينه البسيط العفوي ، لم أكن أدري تماما لماذا ، لكن شيئا ما فيه كان يُشبهني ، يشبهنا كلنا ، ومع الوقت ، بدأت أُدرك أن الفن الشعبي ليس مجرد إنتاج فني عابر ، بل هو سجل صادق لمزاج الناس ، وذاكرة معبرة عن وجدان الطبقات التي تتحرك يوميا في مواجهة الواقع الخام .
الفن الشعبي هو فن تفاعلي بطبيعته ، لا يولد في أبراج عاجية ، ولا يُكتب خلف الأبواب المغلقة ، هو وليد اللحظة ، والتغير ، والظرف الطارئ ، والإحساس الجمعي .
أغنياته ليست مؤلفة من فراغ ، بل هي استجابة مباشرة لأزمة أو فرحة أو تغيّر سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو حتى مناخي ، يمكننا القول إنه فن " يرتجل الحياة " ، لكنه يفعل ذلك بوعي جمعي عميق ، يُخزن الخبرات المتراكمة للناس البسطاء ، ويحولها إلى منتج ثقافي يمكن أن يُدرس ويُفهم ، لا فقط يُطرب أو يُردد .
وهنا تكمن أهميته : فبينما تتسم حياة الطبقات العليا بنوع من " التعقيم الاجتماعي " حيث يقف المال والسلطة كجدار عازل يحميها من صدمات الواقع ، تظل الطبقات الوسطى والدنيا هي المسرح الحقيقي لكل التغيرات ، وبالتالي يصبح الفن الشعبي وسيلة مثلى لدراسة سوسيولوجيا الشعوب ، لفهم كيف تتأقلم الجماعة مع الضيق ، كيف تعبر عن الحزن ، وتحتفل بالفرح ، وتتعامل مع التناقضات والتجاذبات التي تشكل يومها ، هذا الفن لا يشرح فقط كيف يعيش الناس ، بل لماذا يعيشون بهذه الطريقة .
والهوية في الفن الشعبي ليست زينة تُعلق على الجدران ، بل جوهر ، فكل بلد ، بل كل منطقة ، تملك منتجها الشعبي الخاص الذي يُشبه أهلها ، المغني الشعبي يرتدي زي منطقته ، يتحدث بلهجتها ، يُحاكي بيئتها ، ومن فرط الصدق والارتباط ، تستطيع أن تعرف منشأ الفنان من أول كلمة ، من بشرته ، من إيقاع موسيقاه .. على النقيض ، تجد فنون " الطبقات العليا " تُنتج نُسخا متشابهة ، بل أحيانا مملة ، وكأنها صادرة عن قالب واحد ، فالكلمات مكررة ، والألحان متشابهة ، والوجوه مصنّعة ، والأزياء تُنسخ حسب موضة واحدة تُعرض على الجميع ، وكأن الفرد قد تلاشى لصالح العلامة التجارية.
الأكثر إثارة في الفن الشعبي أنه لا يخجل من صراحته ، فقد تسمع في الأغنية الشعبية ألفاظا جريئة ، أو مضامين تُلامس التابوهات ، لكنك نادرا ما تشعر بالابتذال ، فثمة أمانة داخلية تُشع من الأغنية ، تجعل من كل ما فيها " في موضعه " فلا يبدو لك أن الغرض هو الإثارة بل الإفصاح ، فالفن هنا لا يتجمل ، ولا يدعي الطهارة ، لكنه لا يتورط أيضا في الفجاجة من أجل فرقعة زائفة ، إنه فقط يقول الحقيقة " كما هي ".
وهنا تظهر روح المصالحة ، فالفن الشعبي لا يحاكم الإنسان ، بل يتقبله ، يحتضن ضعفه وتناقضاته ، ويتعامل مع الألم كحقيقة لا مفر منها ، فالحياة في العالم الشعبي حياة قاسية ، لا ترف فيها ولا وقت للمراوغة ، لذا فالفن الذي يخرج منها يحمل نفس الصدق ، ونفس الشجن ، فجد فيه حكايات عن الدين ، وعن العوز ، وعن الصراع بين الرغبة والضمير ، وعن الحيرة ، فهو لا يتوقف عند قصص الحب ، ولا يختزل التجربة الإنسانية في فراق ولقاء ، لكنه يغوص إلى ما هو أعمق بكثير .
وقد أجد نفسي غير قادرة حتى على تصنيف الفن الآخر " غير الشعبي " لأنه في كثير من الأحيان لا يتكلم عن شيء حقيقي ، فهناك فن يُنتج في صالات مغلقة ، بعيدا عن الناس ، لا يرى الشارع ، ولا يسمع وجع الناس ، بينما الفن الشعبي رغم بساطته الظاهرة ، هو أكثر الأعمال قدرة على ملامسة الإنسان في أكثر لحظاته صدقا .
الفن الشعبي ليس فن البسطاء فقط ، بل فن الحياة في أقسى تجلياتها ، هو التعبير الناضج ، العفوي ، الجسور ، عن وجدان أمة ، وكلما اقتربنا منه ، اقتربنا من حقيقتنا .