اختفاء الكروموسوم Y يهدد صحة الرجال مع التقدم بالعمر

منذ عقود طويلة، ظل العلماء في حيرة أمام الفارق الثابت في متوسط الأعمار بين الرجال والنساء. ففي أغلب بلدان العالم، تعيش النساء لسنوات أطول من الرجال، وتتمتع بصحة أفضل في مراحل متقدمة من العمر. وقد نُسب هذا التفاوت إلى عوامل سلوكية واجتماعية واقتصادية؛ كزيادة معدلات التدخين بين الرجال، ومخاطر المهن الشاقة، والإجهاد النفسي، وعدم الاهتمام بالمتابعة الطبية الدورية. غير أن هذه العوامل لم تكن كافية لتفسير الظاهرة بالكامل، مما دفع العلماء للبحث في العمق الجيني والبيولوجي عن تفسير جذري.
واليوم، تقودنا الأبحاث الحديثة إلى اكتشاف بالغ الأهمية قد يكون المفتاح لفهم هذا اللغز: اختفاء تدريجي للكروموسوم Y من خلايا الرجال مع تقدمهم في العمر. هذا التغيير الجيني الصامت، الذي يحدث في الخلايا الجسدية دون أن يشعر به الإنسان، قد يكون المسؤول الرئيسي عن تدهور الصحة لدى الرجال وزيادة خطر تعرضهم للأمراض المزمنة، بما في ذلك السرطان وأمراض القلب والدماغ.
ما هو الكروموسوم Y ولماذا هو مهم؟
الكروموسومات هي وحدات وراثية مسؤولة عن نقل الصفات من جيل إلى آخر، ويوجد في جسم الإنسان 23 زوجًا منها. أما الكروموسوم Y، فهو أحد الكروموسومات الجنسية، يوجد فقط لدى الذكور، ويرتبط بتحديد الصفات الذكورية الأساسية، مثل تطور الأعضاء التناسلية الذكرية وإنتاج الحيوانات المنوية.
ورغم أن الكروموسوم Y يُعد أصغر الكروموسومات من حيث الحجم وعدد الجينات، إلا أن دوره يتجاوز مجرد تحديد الجنس؛ فقد أظهرت دراسات جينية حديثة أن له وظيفة في تنظيم عمل الجهاز المناعي، وقد يؤثر على النشاط الجيني في أعضاء حيوية مثل القلب والدماغ.
ظاهرة "mLOY": اختفاء الكروموسوم Y من خلايا الدم
ما اكتشفه العلماء حديثًا هو أن هذا الكروموسوم قد يبدأ في الاختفاء تدريجيًا من بعض خلايا جسم الرجل مع التقدم في السن، وخاصة خلايا الدم البيضاء المسؤولة عن المناعة. وتُعرف هذه الظاهرة اختصارًا باسم mLOY (Loss of Y chromosome in blood cells)، وقد تكون أكثر شيوعًا مما كنا نعتقد سابقًا.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 40% من الرجال الذين تجاوزوا سن السبعين يعانون من فقدان جزئي أو كلي للكروموسوم Y في بعض خلاياهم، مما يجعلهم عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض المزمنة.
في دراسة موسعة أجرتها جامعة أوبسالا السويدية، قادها العالم لارس فورسبيرغ، تم تحليل بيانات الآلاف من الرجال المسنين، ووجد الباحثون أن أولئك الذين لديهم معدلات أعلى من فقدان الكروموسوم Y، كانوا أكثر عرضة للوفاة المبكرة، وأمراض القلب، والسرطان، وتراجع الوظائف الإدراكية، بل وحتى الخرف.
فقدان الكروموسوم Y
يتسبب فقدان الكروموسوم Y في تعطيل عمل بعض الجينات المرتبطة بوظائف المناعة والالتهاب. فبمجرد أن تفقد خلايا الدم البيضاء هذا الكروموسوم، يتراجع أداؤها في مقاومة الالتهابات والفيروسات والخلايا السرطانية، ما يفتح المجال لظهور الأمراض ببطء ولكن بثبات.
وقد أشارت الأبحاث إلى أن خلايا القلب والدماغ قد تتأثر أيضًا بشكل غير مباشر نتيجة لضعف الجهاز المناعي، مما يفسر العلاقة بين فقدان الكروموسوم Y وأمراض القلب والدماغ، بما في ذلك النوبات القلبية ومرض ألزهايمر.
التدخين عامل محفّز
من المفارقات أن بعض أنماط الحياة السلبية قد تسرّع من هذه الظاهرة الجينية. فقد كشفت دراسة أجراها فريق بحثي في جامعة فيرجينيا، بقيادة الدكتور كينيث والش، أن التدخين المزمن يضاعف من احتمال فقدان الكروموسوم Y، ويزيد من حدة تدهور المناعة لدى الرجال المدخنين مقارنة بغير المدخنين من نفس الفئة العمرية.
هذه العلاقة تعني أن الخطر لا يكمن فقط في المواد السامة الناتجة عن التدخين، بل في تأثيره على البنية الوراثية للخلايا، بما في ذلك تسريع فقدان مكونات أساسية مثل الكروموسوم Y.
هل يمكن استخدام فقدان Y كمؤشر بيولوجي؟
أحد أبرز ما توصلت إليه هذه الأبحاث هو إمكانية استخدام فقدان الكروموسوم Y كمؤشر بيولوجي جديد في الفحوصات الدورية للرجال. تخيل مثلاً أن يتمكن الأطباء من الكشف المبكر عن خطر الإصابة بأمراض معينة فقط من خلال فحص بسيط للدم يحدد نسبة فقدان هذا الكروموسوم.
هذا النوع من الفحوصات قد يفتح الباب أمام عصر جديد من الطب الشخصي، حيث تُصمم خطط العلاج والوقاية بناءً على البصمة الجينية لكل شخص.
هل يمكن الوقاية أو إبطاء الظاهرة؟
رغم أن فقدان الكروموسوم Y يبدو جزءًا من مسار الشيخوخة الطبيعية، إلا أن بعض الدراسات تشير إلى إمكانية إبطاء هذه العملية من خلال:
- الإقلاع عن التدخين
- ممارسة النشاط البدني بانتظام
- تناول الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة
- الحفاظ على نمط حياة صحي
- المتابعة الدورية مع الأطباء للكشف المبكر عن التغيرات الجينية
كما يعمل العلماء حاليًا على تطوير أدوية جينية أو علاجات خلوية لتحفيز الخلايا المتضررة أو منع تفكك الكروموسوم Y.
فهم جديد للعمر البيولوجي للرجل
في ضوء هذه الاكتشافات، يبدو أن الكروموسوم Y ليس فقط رمزًا بيولوجيًا للرجولة، بل هو أيضًا عنصر حيوي في حماية صحة الرجل ومناعته وطول عمره. وفقدانه مع التقدم في السن لا يُعد مجرد ملاحظة علمية جانبية، بل قد يكون السبب الرئيسي وراء تفاقم الأمراض المزمنة، وتراجع الحالة الصحية العامة لدى الرجال المسنين.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في مفهوم الشيخوخة من منظور جيني، وإدراج هذه الظاهرة في برامج الوقاية الصحية، وربما تصميم حملات توعية خاصة بالرجال تحذر من العوامل التي تسرع فقدان الكروموسوم Y وتدعو إلى تبني أساليب حياة صحية قد تحفظ هذا الجين النادر لفترة أطول.