عاجل

زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي.. مرحلة جديدة من الحضور المصري في القارة الأفريقية

الرئيس السيسي مع
الرئيس السيسي مع نظيره الجيبوتي

شكلت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى جيبوتي تدشيناً لمرحلة جديدة من الحضور المصري في القارة الأفريقية، وفي منطقة مفصلية في القرن الأفريقي، وهو ليس حضوراً للدولة المصرية على الصعيد الرسمي فقط، وإنما حضور للقدرات الوطنية المصرية في بناء شراكات التعاون مع العالم العربي وأفريقيا، على نحو أكدته بوضوح كلمة الرئيس السيسي خلال المؤتمر الصحفي مع الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة، فضلاً عن البيان المشترك الذي صدر في ختام الزيارة، الذي عبر عن نموذج ينبغي أن تحتذيه مصر وتكرره في علاقاتها بكل الدول العربية والأفريقية، وهي العلاقات التي تحتاج إلى أطر تجديدية تناسب الأهداف الوطنية للدولة المصرية وتواكب تحولات العالم الجديد.

وتؤكد دراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاقتصادية، أن الزيارة الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسي -خلال أربع سنوات- تنامي الإدراك المصري بالأهمية الاستراتيجية لجيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي عموماً؛ وكان الرئيس قد زار جيبوتي للمرة الأولى –لرئيس مصري- في مايو عام 2021. وتكشف نتائج الزيارة الثانية عن تجاوز مصر مرحلة مواجهة التحديات، واتجاهها إلى مرحلة صياغة علاقاتها الاستراتيجية مع جيبوتي، بما سلّط الضوء على المستهدفات الجديدة للسياسة الخارجية المصرية، كما أكد قيمة الإعداد الجيد للزيارة، والاستمرارية في الأهداف ودخول مرحلة التنفيذ؛ حيث كان الرئيس السيسي قد أكد خلال الزيارة الأولى عام 2021 "حرص مصر على تعزيز الدعم الموجه إلى جهود التنمية في جيبوتي.. وتعظيم التعاون في مجالات مكافحة الفكر المتطرف، والبنية التحتية والطاقة والصحة والطيران وربط الموانئ والتعليم والثقافة، بالإضافة إلى نقل الخبرات المصرية وتوفير الدعم الفني وبرامج بناء القدرات للكوادر الجيبوتية في مختلف القطاعات، فضلاً عن تطوير التعاون لدعم المؤسسات الأمنية والعسكرية" .وهذا هو بالضبط ما تم الإعلان عنه في البيان الختامي للزيارة الثانية، وهو ما جرى إبرام الاتفاقيات حوله فيها.

في ضوء ذلك، عكست الزيارة ثلاث دلالات، تتمثل فيما يلي:

أولاً: تعميق الرؤية الاستراتيجية المصرية لجيبوتي والقرن الأفريقي

أكدت الزيارة أن علاقات مصر الأفريقية تجاوزت مرحلة الاندفاع بمواجهة التحديات والمخاطر، وأن هذه الأخيرة لم تعد هي وحدها التي تدفع العلاقات المصرية-الأفريقية وتحدد إطارها، ذلك أنه رغم التعامل مع التحديات والمخاطر السياسية والأمنية والعسكرية في المرحلة السابقة وخلال الزيارة الراهنة أيضاً، فإن مصر تتجه إلى تطوير وتعميق علاقاتها الأفريقية على الأصعدة المختلفة، وهو ما يعني انتقال العلاقات المصرية - الجيبوتية من المرحلة التي تضمنت إطلاق رسائل للآخرين، إلى مرحلة الانطلاق نحو الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.

وعلى الرغم من استمرار التحديات والمخاطر على الأمن القومي التي تدفع مصر لتعزيز علاقاتها مع جيبوتي، فإنها تنطلق في ذلك بتصور مكتمل وشامل، لبناء علاقات "وطنية" دائمة، اقتناعاً بالعوائد والفوائد واندفاعاً بالشراكات الاستراتيجية والاقتصادية وبرؤية تنموية، في ظل رسالة مصرية قومية تؤكد على أهمية جيبوتي كدولة عربية وأهمية الدائرة الأفريقية (والعربية ممثلة في جيبوتي أيضاً) كدائرة راسخة من دوائر السياسة المصرية. وعكس إعلان ما تم الاتفاق عليه في هذه الزيارة في بيان شامل مفصل وضوح الرؤية المصرية تجاه العالم العربي وأفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي.

تمت الزيارة بشكل مفاجئ ودون إعلان مسبق، وأكدت نتائجها أنه جرى العكوف عليها والدراسة المركزة والكثيفة حول ما ورد بالبيان الختامي من مشروعات تدارسها الطرفان على مدى الأشهر الماضية. كما عكست قيام مجموعات من المتخصصين المصريين بالوزارات والهيئات بدراسة مشروعات التنمية في جيبوتي، بشكل بدت فيه شئون جيبوتي الداخلية كجزء من الشواغل المصرية، مما عكس اهتمام مصر بهذه الدولة العربية بالغة الأهمية. وفي هذه المرحلة تجتذب الرسائل إلى الداخل الوطني في كل بلد أهمية أكبر، وتتكرس القيمة الاستراتيجية لجيبوتي كدولة عربية في الوجدان المصري، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي حين وصفها بـ "البلد العزيز، الذى يحتل مكانة خاصة كبيرة فى وجدان كل مصري"، مضيفاً: "أشعر بأننى فى وطنى، وسط أهلى وأشقائى".

كان لافتا إشارة البيان الختامي إلى مشروعات محددة باسمها، وإلى مساهمة مصر في تطوير بلدات محددة داخل جيبوتي (مشروع محطة الطاقة الشمسية فى قرية "عمر جكع"، وتوسيع ميناء الحاويات فى "دوراله"، وتشييد طرق لربط ميناء جيبوتي بشبكة الطرق فى جيبوتي). ذلك يعزز المعرفة بالداخل الجيبوتي في مصر، ويعكس اتجاه مصر لتعزيز رؤيتها حول التعمير والبناء في القارة الأفريقية، وهي المدخل الطبيعي لتعزيز العلاقات. ومن شأن ذلك انتشار الخبرات المصرية في مختلف المجالات، وزيادة الصلات بين أرباب المصالح والمشروعات المصريين ونظرائهم بالدول الأفريقية والعربية، وهو أمر يعيد إحياء الدور الطليعي للدولة المصرية في تنمية القارة الأفريقية. 

ثانياً: تأكيد موضعة "اللآلئ الجيوسياسية العربية" في قلب النظام العربي

على الرغم من أن عدد الدول الأعضاء بجامعة الدول العربية يتجاوز 20 دولة، إلا أن هذه الدول لم تكن جميعها على الدرجة نفسها من التفاعل والاشتباك مع قضايا النظام العربي. هناك دول دخلت إلى قلب النظام في مراحل ثم خرجت منه في مراحل أخرى بسبب أزماتها الداخلية، وهناك دول أبعدتها أزماتها الداخلية لعقود ثم استعادت وجودها في القلب. لفترة طويلة، ظلت دول مثل جيبوتي والصومال وموريتانيا، وجزر القمر التي انضمت إلى جامعة الدول العربية عام 1993، كدول على هامش النظام العربي، رغم أنها أعضاء كاملة العضوية ولهم الحقوق القانونية نفسها، لكن لم يوجه إليهم الاهتمام نفسه الموجه للعلاقات القائمة في القلب الجيوسياسي للنظام، الذي مثلته مصر والمشرق العربي والخليج.

الآن، جاء وقت إعادة موضعة هذه اللآلئ الجغرافية والجيوسياسية وتأكيد مكانتها المستحقة في قلب النظام العربي، بعدما اعترف العالم كله بأهميتها الفريدة وأخذ يتنافس عليها. وعلى الرغم من أن النخب السياسية في هذه الدول وأوضاعها الصعبة علمتها الدرس في الاعتماد على ذاتها وتوظيف أرصدتها الجيوسياسية جيداً وبصبر عنيد حتى حظيت بهذه المكانة، بما مكنها بعد عقود من اجتذاب أنظار العالم من كل حدب وصوب إلى أهميتها الخاصة، إلا أن انحيازاتها العربية لا تزال لها الأولوية.

تقف جيبوتي على رأس هذه الدول التي اجتهدت لبناء مكانتها الخاصة، واجتهدت نخبتها السياسية وعلى رأسها الرئيس عمر جيلة (يحكم جيبوتي منذ عام 1999 وأعيد انتخابه لولاية خامسة عام 2021 تنتهي عام 2026)، لأجل بناء مكانة مركزية لبلدها تناسب موقعها الجيوسياسي المتميز، وهو ما جعل منها قيمة مضافة للنظام العربي، ولؤلؤة جيوسياسية فريدة بموقعها في مدخل باب المندب بين البحر الأحمر شمالاً وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي في الجنوب، حيث يجعل الموقع الجغرافي لجيبوتي على الضفة الغربية الجنوبية من البحر الأحمر وعلى بعد نحو25  كيلومتراً من اليمن، منها جسراً حيوياً يربط بين قارة أفريقيا والجزيرة العربية، وعلى حد قول الرئيس جيله نفسه، على المستوى الاقتصادي تعد جيبوتي بوابة لدول منظمة الإيجاد ومجموعة كوميسا على البحر الأحمر.

تزداد قيمة هذه اللؤلؤة الجيوسياسية بإطلالتها الفريدة وبوجودها في منطقة مركزية من التفاعلات التجارية والأمنية والعسكرية بالعالم الراهن؛ عند ملتقى مشروعات اقتصادية دولية عملاقة منها طريق الحرير الصيني، حيث تقع جيبوتي في قلب هذا المشروع العملاق، وعند مفصل مركزي من تلاقي المصالح الأمريكية والآسيوية والأوروبية، وتحدها إريتريا من الشمال وإثيوبيا من الغرب والجنوب والصومال من الجنوب الشرقي فيما تطل شرقاً على البحر الأحمر وخليج عدن، وتقع في قلب منطقة تشهد أخطار الإرهاب والقرصنة، وصراعات وأزمات، وتشهد حالياً العملية العسكرية الأمريكية مع الحوثيين؛ وكلها شواغل في قلب النظام الدولي.

وفي ظل إدارة ترامب المزعجة بسياساتها العالمية، تزداد أهمية جيبوتي، ليس فقط لحاجة الولايات المتحدة إليها في إطار حربها ضد الحوثيين، وإنما في إطار رؤيتها الكلية الأشمل للممرات الاستراتيجية الدولية، في سياق استراتيجيتها الكونية في المواجهة مع الصين. وإذا كانت هذه الإدارة تضع المواجهة مع الصين وعرقلة الصعود الصيني نصب عينيها، على نحو ما تعكسه حربها التجارية معها، فإنها سوف تولي جيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي أهمية خاصة، وسوف تزداد أهميتها خلال فترة الصراع مع الحوثيين وخلال فترة الوجود الأمريكي بالبحرالأحمر، وعلى مقربة من قناة السويس.

وعلى الرغم من صغر حجم جيبوتي، إلا أنها تحتفظ باستقلالية في سياستها الخارجية، وتحافظ على التوازن في علاقاتها مع مختلف الدول العظمى والكبرى التي تستضيف قواعدها العسكرية، ضمن نهج يراعي السيادة الوطنية ويؤكد سياسة الحياد في منطقة القرن الأفريقي، لذلك كانت جيبوتي قد رفضت طلباً أمريكياً خلال إدارة بايدن السابقة لنصب منصة صواريخ لاستهداف الحوثيين، في غضون تداعيات أزمة غزة والهجمات في البحر الأحمر. هنا يؤكد الرئيس عمر جيلة أن "موقفنا واضح وهو رفض استهداف أي طرف انطلاقاً من أراضينا، وذلك أمر سيادي نتمسك به". وهذا الموقف الجيبوتي مهم تعزيزه من جانب مصر انطلاقاً من مصالح وطنية ترتبط بالأمن القومي المصري وقناة السويس وارتباطاً بمسئوليتها العربية أيضاً.

ثالثاً: انطلاق مرحلة الشراكات الاستراتيجية الوطنية الشاملة

في الموقف السياسي والأمني المشترك، أكد البيان الختامي لزيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي لجيبوتي على رفض تهديدات أمن وحرية الملاحة في البحر الأحمر، واتفقا على المسئولية الحصرية للدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن في حوكمة هذا الممر الملاحي الدولي وتأمينه، وأكدا على ضرورة دعم الجهود المبذولة لتثبيت ركائز الأمن والاستقرار في الصومال وصون وحدته وسلامة أراضيه. كما أكد الجانبان على رفض أي محاولة تهدد وحدة وسيادة السودان بما في ذلك قيام حكومة موازية، وضرورة الحفاظ على المؤسسات الوطنية للدولة السودانية.

تشير الزيارة إلى مركزية أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، الذي يشكل شرياناً حيوياً للتجارة الدولية، ولأمن مصر القومي عبر قناة السويس، في ظل ما تشهده منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر واليمن من توترات متصاعدة، أبرزها الحرب الأمريكية مع الحوثيين، والصراع الداخلي في الصومال والحرب في السودان، وهي كلها تطورات تجعل التنسيق المصري مع جيبوتي مسألة أمن قومي.

لكن الزيارة تضمنت أيضاً "تعميق التعاون الثنائى فى مجالات: الدفاع، والأمن، ومكافحة الفكر المتطرف، والإعلام، والطاقة، والتجارة، والاقتصاد، والاتصالات، والزراعة، والرى والموارد المائية، والتعليم، والتعليم العالى، والثقافة، والصحة، والتضامن الاجتماعى، والسياحة، والشباب، والرياضة"، وهو أمر غير مسبوق في شموله في علاقات البلدين.

أكدت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال المؤتمر الصحفي مع الرئيس عمر جيلة والبيان الختامي المشترك للزيارة ازدياد ارتكاز مصر على الدبلوماسية الاقتصادية والوطنية إجمالاً وطرح نفسها كشريك تنموي يسعى لنقل خبراته للآخرين، على نحو ما عكسه الإعلان عن إطلاق برنامج طموح ومشترك، لتحقيق أمن الطاقة من خلال عدد من المشروعات، تتعلق بتأهيل شبكة الكهرباء الوطنية، ومشروع محطة الطاقة الشمسية وإنشاء وتوسعة محطات طاقة شمسية وطاقة رياح فى مناطق مختلفة بجيبوتى، ونقل الخبرات المصرية وتشجيع الاستثمارات بين البلدين، لا سيما فى مجال الموانئ والمناطق الحرة، وتنفيذ مشروعات بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، مثل إقامة مركز لوجيستى للشركات المصرية فى المنطقة الحرة فى جيبوتى، والإعلان عن تأسيس "مجلس الأعمال المشترك"، وتدشين مقر بنك "مصر – جيبوتى"، وتعزيز التعاون القائم فى مجال بناء القدرات وتأهيل الكوادر الوطنية.

هنا تبرز خصوصية المدخل المصري للعلاقات مع جيبوتي؛ حيث يظل المدخل الأساسي للاهتمام الدولي بجيبوتي مركزاً على استئجار القواعد العسكرية وبناء  الموانئ التجارية. وعلى الرغم من أن ذلك يوفر مداخيل مالية مهمة لنهضة الدولة التي استفادت من كثير من المشاريع الاقتصادية التي أقامتها الدول الأخرى فيها ومنها مشروعات صينية، إلا أنه لا يتجه إلى بناء شراكات استراتيجية تعبر عن الملاءة الوطنية الواسعة للمصالح، وهو ما نجحت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي في تحقيقه، عبر مداخل تستهدف مصلحة جيبوتي انطلاقاً من مسئولية مصرية تجاه هذا البلد العربي المهم، الذي يشكل قيمة استراتيجية مضافة للعالم العربي وسط البيئة الدولية المضطربة.

تبقى لمصر نقطة تميز أساسية في علاقاتها العربية وفي علاقاتها مع الجزء الأفريقي من العالم العربي، وهي التي تتعلق بالثقافة والدين والقومية والفن المصري والتعليم ودور الأزهر والإذاعة والإعلام، في ضوء الرسالة القومية لمصر وفي مواجهة الإعلام الجديد، وذلك ما يمكن تعزيزه عبر برامج دينية وثقافية وتعليمية تسعى إلى الحفاظ على الهوية العربية وتعزيزها، عبر هيئة مسئولة بالتنسيق بين وزارة الخارجية والجهات الإعلامية، تأخذ على عاتقها الرسالة القومية لمصر، وتغرسها في مناطق وأصقاع متشوقة لتجديد الثقافة العربية، وهو أمر لا تستطيع القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على ساحات المصالح الاقتصادية والأمنية والعسكرية في جيبوتي والدول العربية الأخرى منافسة مصر فيها. كما يبقى أهمية تكرار النموذج المصري في الشراكة الاستراتيجية مع جيبوتي مع الدول العربية الأخرى، كالصومال والسودان وموريتانيا، في سياق المسئولية الوطنية والقومية لمصر في هذا الظرف الاستثنائي العربي. 

 

تم نسخ الرابط