عاجل

في ظل ما يشهده العالم الإسلامي من تصدعات طائفية وتوترات مذهبية، تتزايد الحاجة إلى طرح سؤال جوهري طال تأجيله: هل نحن بحاجة إلى حوار إسلامي - إسلامي؟ ولعل السؤال الأدق: هل يمكن للأمة الإسلامية أن تتجاوز أزماتها دون هذا الحوار؟

ما نراه اليوم ليس مجرد خلافات فقهية أو اجتهادية طبيعية، بل أزمة مركبة تشمل البنية الفكرية والدينية والاجتماعية للعالم الإسلامي. إذ تحوّل التنوع المذهبي – الذي لطالما اعتُبر غنىً في التراث الإسلامي – إلى ساحة للصراع والتناحر. أصبح الآخر المذهبي خصمًا، لا شريكًا في الدين، وانقلب الخلاف في الفهم إلى نزاع على الشرعية والانتماء.

في المقابل، يؤكد الفقه الإسلامي منذ قرونه الأولى على قيمة الحوار وشرعية الاختلاف، ويكرّس ذلك من خلال قواعد مثل: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"، و"الاختلاف بين الفقهاء رحمة"، وهي قواعد لم تُوضع ترفًا، بل لتمكين الأمة من إدارة تنوعها بطريقة رشيدة. غير أن هذا التراكم الفقهي سرعان ما خفت بريقه أمام صعود الخطاب الطائفي والتحريض الإعلامي، وجرى تسليح الاختلافات في خضم النزاعات السياسية.

المشكلة أن غياب هذا الحوار لا يؤثر فقط على المشهد الديني، بل يُضعف النسيج الاجتماعي برمّته. ففي المجتمعات التي يتجاور فيها أتباع المذاهب المختلفة، يصبح الصمت تجاه الخلافات عبئًا، وتتحول التوترات المكتومة إلى قابلية للانفجار عند أول احتكاك. هنا، يصبح الحوار ضرورة لا مجاملة، وآلية لبناء عقد اجتماعي ديني جديد يعيد تعريف "نحن" الإسلامية.

رغم تعقيد الوضع، لا يخلو التاريخ من محاولات تقريب جادة. يكفي أن نستحضر تجربة "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" في القاهرة، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت بجواز التعبد على المذهب الجعفري، وكتابات الإمام محمد عبده التي دعت إلى وحدة الشعور الديني. كما أن المجامع الفقهية المعاصرة حاولت الدفع بهذا الاتجاه، وإن ظل أثرها محدودًا في غياب دعم إعلامي وتربوي متكامل.

لكن حتى تؤتي هذه المحاولات أكلها، نحن بحاجة إلى “إطار نظري متكامل للحوار الإسلامي–الإسلامي”، يقوم على عدة مرتكزات: أولها الاعتراف بالآخر المذهبي كشريك لا خصم، وهو اعتراف لا يطالب بتجاوز الاختلاف، بل بتنظيمه ضمن أفق مشترك. ثانيها، تبني قراءة نقدية مسؤولة للتراث، تُعيد تأويله في ضوء الحاجات المعاصرة، دون التفريط في أصوله. ثالثها، تجاوز فقه الخصام إلى فقه المقاصد، حيث تُستبدل معارك التفاصيل الفقهية بالاشتراك في تحقيق مقاصد الشريعة الكبرى: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والكرامة. رابعًا، ضرورة إنشاء مؤسسات تعليمية مشتركة تكرّس الوعي الجامع، بدلًا من أن تغذي الانقسام. وأخيرًا، تفعيل المنصات الرقمية والإعلامية التي تروّج لثقافة الاعتراف والتعدد، لا ثقافة الإلغاء والشيطنة.

الحوار إذًا ليس ترفًا ولا رفاهية فكرية، بل استجابة واقعية لأزمة مركبة. هو محاولة لتأصيل "وحدة التنوع" في الإسلام، وإعادة الاعتبار إلى مركزية الأمة كهوية جامعة تتجاوز التفصيلات، وتُعيد ترتيب أولوياتها. قد لا يقود الحوار إلى توحيد الرؤى، لكنه بلا شك يمكن أن يقود إلى تعايش واعٍ ومشترك، وهذا في حد ذاته انتصار أخلاقي وفكري في زمن التشظي.

 

تم نسخ الرابط