عاجل

سيناريوهات إدماج البعد البيئي في إعادة إعمار قطاع غزة

آثار الحرب في غزة
آثار الحرب في غزة

لعقود من الزمن، كانت بيئة قطاع غزة تواجه التدهور والضغوط على أنظمتها البيئية نتيجة للصراعات المتكررة، والتوسع الحضري السريع، والكثافة السكانية العالية، والظروف السياسية، وتعرض المنطقة لتغير المناخ، وشهد قطاع غزة بعد الاعتداءات الأخيرة من الجانب الإسرائيلي تدميرًا واسع النطاق على مستوى البنية التحتية والمرافق وهدم آلاف المنازل والمباني العامة، إضافة إلى تدمير النظم البيئية في القطاع؛ مما ينتج عنه تأثيرات واضحة في الصحة والسكان في المنطقة على المدى المباشر والبعيد، ويجعل العيش في هذه المنطقة غير آمن وغير صحي للسكان. 

ووفقًا للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، فإن ذلك من الضروري لخطط وجهود إعادة الإعمار المقترحة التعامل مع القطاع بطريقة عاجلة وشاملة ومستدامة. بمعنى إدماج خطط لاستعادة البيئة وإزالة الملوثات من المياه والهواء والتربة، واستعادة النظام البيئي الطبيعي بشكل آمن وفاعل ومستدام للقطاع، فضلًا عن توفير الاحتياجات الأساسية للسكان. 

تحتاج عملية التعافي وإعادة الإعمار في قطاع غزة على مدار العقد المقبل إلى نحو 53 مليار دولار، منها 20 مليار في الأعوام الثلاثة الأولى، وذلك بحسب تقييم للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي. ومن الأهمية أن تتضمن عمليات إعادة الإعمار البعد الاقتصادي والاجتماعي بجانب البعد البيئي في محاولة لتنفيذ خطط شاملة ومستدامة لبناء مستقبل أكثر صمودًا لسكان القطاع.

دمرت الحرب التي استمرت حوالي 15 شهر على غزة، ما يقرب من 330 ألف وحدة سكنية، بواقع 272 ألف وحدة سكنية مُدمرة بشكل كامل، و58 ألف وحدة سكنية متضررة بشكل جزئي. كما تضرر أو دُمر أكثر من 90% من الطرق وأكثر من 80% من المرافق الصحية. ويقدر إجمالي الخسائر المادية في قطاع غزة بحوالي 29.9 مليار دولار، والخسائر الاقتصادية والاجتماعية 1.19 مليار دولار، فيما يقدر إجمالي الخسائر والاحتياجات بـ53.2 مليار دولار. 

وبالتالي أكثر القطاعات التي تعرضت للدمار والخسارة هي قطاع الإسكان بالكامل 16.3 مليار دولار، التجارة والصناعة 8.1 مليارات دولار، قطاع الصحة 7.6 مليارات دولار، التعليم 4.1 مليارات دولار، والمواصلات بحوالي 2.9 مليار دولار، المياه والصرف الصحي والنظافة 1.5 مليار دولار، ووصلت خسائر قطاع الكهرباء إلى 450 مليون دولار.

إدماج البعد البيئي في إعادة إعمار قطاع غزة أمر ضروري لضمان التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة لسكانه، خاصة بعد الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية والموارد الطبيعية حيث تواجه غزة أزمات بيئية معقدة، مثل تلوث المياه الجوفية ونقص إمدادات المياه النظيفة الصالحة للشرب، التدهور الحاد في الأراضي الزراعية، والنفايات الصلبة المتراكمة؛ مما يستدعي تبني حلول بيئية ذكية ومستدامة أثناء عمليات إعادة الإعمار. 

الخطة المصرية لإعادة الإعمار 

طرحت مصر في مارس 2025 خلال القمة العربية الطارئة في القاهرة، خطة لإعادة بناء غزة على مدى 5 سنوات، تركّز على الإغاثة الطارئة وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية الطويلة المدى، كما تقترح إنشاء صندوق تحت إشراف دولي يضمن كفاء التمويل وكذلك الشفافية والمتابعة في التنفيذ. تهدف الخطة إلى تحقيق التعافي المبكر وإعادة إعمار قطاع غزة بأيدٍ فلسطينية ولتخفيف معاناتهم الإنسانية، مع ضمان بقائهم في أراضيهم، وإعادة بناء القطاع والتعامل مع حجم الأضرار والخسائر على المستويات الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية، فتنقسم إلى مرحلتين:

التعافي المبكر

تستمر لمدة 6 شهور بتكلفة قدرها 3 مليارات دولار، يتم خلالها البدء في عمليات إزالة الركام من المحور المركزي (محور صلاح الدين) وباقي مناطق القطاع لمناطق التجميع باتجاه الساحل، وكذلك تهيئة هذا المحور كمحور ربط لأعمال إعادة الإعمار، بالإضافة إلى توفير 200 ألف وحدة للسكن المؤقت سابقة التجهيز لاستيعاب 1.2 مليون فرد، والبدء في ترميم 60 ألف وحدة مدمرة جزئيًا بهدف استيعاب 360 ألف فرد عند الانتهاء من عملية الترميم وذلك خلال المرحلة اللاحقة.

إعادة الإعمار وتنقسم إلى مرحلتين:

الأولي: وتستمر لمدة سنتين بتكلفة قدرها 20 مليار دولار، ويتم خلالها إنهاء عملية إزالة الركام، وإنهاء ترميم الوحدات السكنية المستهدفة، وذلك بالتزامن مع إنشاء 200 ألف وحدة سكنية جديدة للسكن الدائم لاستيعاب 1.6 مليون فرد، بالإضافة إلى استصلاح 20 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وإنشاء المرافق والشبكات والمباني الخدمية اللازمة للبدء في تقديم الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والاتصالات؛ حيث سيتم إنشاء منظومة تغذية المياه ومكافحة الحريق والصرف الصحي بواقع 2 محطة تحلية مياه، و2 خزان مياه شرب وحريق، و2 خزان مياه ري، و2 محطة معالجة مياه الصرف.

الثانية: وتستمر لمدة سنتين ونصف بتكلفة قدرها 30 مليار دولار، المستهدف خلالها مواصلة عملية إنشاء المرافق والشبكات والمباني الخدمية اللازمة، بالإضافة إلى إنشاء 200 ألف وحدة سكنية جديدة للتسكين الدائم لاستيعاب 1.2 مليون فرد، ليصبح إجمالي الوحدات السكنية الدائمة الموجودة في القطاع 460 ألف وحدة قادرة على استيعاب 3 ملايين فرد، بالإضافة للبدء خلالها في إنشاء المنطقة الصناعية على مساحة 600 فدان، وميناء الصيد البحري والميناء التجاري ومطار غزة، وتنفيذ المرحلة الأولى من المنطقة الساحلية بطول 10 كم والمسماة طريق الكورنيش.

ضرورة إدماج البعد البيئي في جهود إعادة الإعمار في غزة

لا شك أن المحاور الأساسية للتعافي وإعادة الإعمار في قطاع غزة تتمثل في الأمن، واستعادة الاحتياجات الأساسية للسكان، ولا سيما المسكن والخدمات والمرافق الأساسية، واستعادة قطاع الصحة والتعليم. ولكن يجب مراعاة إدماج البعد البيئي من خلال عدة سيناريوهات بيئية تهدف إلى تحقيق الاستدامة، وتقليل الأضرار البيئية، وتحسين جودة الحياة لسكان القطاع بالنظر إلى الأوضاع الحالية. لذا فإن أي خطة إعادة إعمار ناجحة يجب أن تدمج الحلول البيئية لمواجهة تحديات مثل تلوث الهواء والمياه، وتراكم النفايات الصلبة والركام، وتدهور الأراضي الزراعية. وينبغي أن يكون تقييم الأثر البيئي، بما في ذلك تقييم التلوث الناجم عن الذخائر وغيرها من مظاهر التلوث المرتبط بالصراع جزءًا لا يتجزأ من تخطيط التعافي وإعادة الإعمار. كما يجب أن تعالج عملية إعادة إعمار غزة القضايا البيئية المزمنة التي كانت موجودة قبل الحرب وتفاقم تأثيرها مع الحرب. ويمكن تسليط الضوء على أهم السيناريوهات البيئية الممكنة لإعادة إعمار غزة:

السيناريو الأول: إعادة الإعمار المرن 

يهدف هذا السيناريو إلى إعادة بناء قطاع غزة بشكل تدريجي ومتوازن، مع مراعاة الاحتياجات الأساسية الملحّة والموارد المتاحة. يتم تنفيذ المشاريع على مراحل، مع التركيز على دمج الحلول البيئية المستدامة في كل مرحلة لضمان تنمية مستدامة وشاملة.

المرحلة الأولى (1-3 أعوام): الاستجابة العاجلة والاحتياجات الأساسية

ويتماشى هذا السيناريو مع المرحلة الأولى المقترحة للتعافي المبكر

إزالة الأنقاض والركام وإعادة تدويرها: استخدام الكسّارات لإنتاج مواد بناء جديدة من الأنقاض؛ مما يقلل الحاجة إلى استيرادها، فصل المواد الخطرة (مثل الأسبستوس والرصاص) بطريقة آمنة بالتعاون مع خبراء بيئيين، وإنشاء مواقع آمنة لتخزين النفايات السامة بعيدًا عن المناطق السكنية. وتقدر التكلفة بحوالي 1.25 مليار دولار.

إعادة بناء المساكن والمرافق العامة: المستهدف إعادة بناء 60 ألف وحدة سكنية تضررت بشدة من خلال إعادة تدوير الأنقاض لتوفير مواد بناء محلية وتقليل التلوث.

إصلاح البنية التحتية الأساسية: المستهدف إعادة تأهيل شبكات المياه والصرف الصحي، وإصلاح شبكات الكهرباء والطرق الرئيسية، بتكلفة تقديرية حوالي 5 مليارات دولار.

تعزيز القدرات الصحية والتعليمية: المستهدف إعادة بناء وتأهيل المستشفيات والمدارس المتضررة، وعمل وحدات طبية مؤقته لاستيعاب المصابين والجرحى، عمل فصول متنقلة أو تطوير منصة الكترونية لضمان عدم حرمان الأطفال من التعليم لحين إعادة بناء المدارس، مع ضمان إصلاح شبكات الاتصالات والإنترنت. 

المرحلة الثانية (4-7 أعوام): إدماج التنمية البيئية المستدامة

وهنا يجب النظر في تنمية اقتصادية مستدامة على المدى الطويل لإعادة تأهيل القطاع من خلال مشروعات مستدامة:

تطوير مشروعات الطاقة المتجددة: استهداف تركيب أنظمة طاقة شمسية بقدرات تصل إلى 500 ميجاوات لتغطي حوالي 60% من الكهرباء اللازمة للقطاع.

تحسين إدارة المياه: استهداف إنشاء محطات تحلية لمياه البحر ومحطات معالجة لمياه الصرف الصحي، وعمل تحسينات وإزالة لملوثات المياه الجوفية.

إعادة تأهيل وتطوير الطرق: مستهدف إصلاح الطرق العامة والشوارع الداخلية تقدر بـ3.5 مليارات دولار تدمرت بالقصف.

السيناريو الثاني: إعادة الإعمار المستدام

يعتبر هذا السيناريو متفائل ويركز على بناء بنية تحتية صديقة للبيئة تعتمد على الطاقة المتجددة، تحلية المياه، إعادة التدوير، والزراعة المستدامة، من خلال تبني عدد من المبادرات البيئية منها:

إدارة المياه:

بناء محطات تحلية لمياه البحر بسعة 200 ألف متر مكعب/يوميًا، لتوفير مياه الشرب، وبناء محطات تحلية تعمل بالطاقة الشمسية، مثل مشروع تحلية مياه البحر في دير البلح، الذي نفذته اليونيسف، ويوفر6 آلاف متر مكعب يوميًا من المياه الصالحة للشرب.

بناء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي واستخدامها في الزراعة؛ مما يقلل الضغط على المياه الجوفية الملوثة.

حماية وتوسيع الأحواض المائية الجوفية عبر تقنيات الحصاد المائي، مثل بناء سدود صغيرة وخزانات تجميع مياه الأمطار.

مشاريع الطاقة المتجددة:

توسيع استخدام الطاقة الشمسية على الأسطح لتشغيل المنازل، المستشفيات، ومحطات المياه، لتوفير 60-70٪ من احتياجات الكهرباء في القطاع؛ حيث يحتاج القطاع لأكثر من 500 ميجاوات من الكهرباء.

استخدام الوقود الحيوي الناتج عن معالجة النفايات لتوليد الطاقة؛ مما يقلل من النفايات الصلبة ويقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري.

امكانية الاستفادة من توربينات الرياح الصغيرة في المناطق الساحلية لتوليد الكهرباء وتنويع مصادر الطاقة.

إدارة النفايات وإعادة التدوير:

إنشاء مصانع لتدوير الأنقاض والركام الناتج عن الحرب وإعادة استخدامها في مواد لإعادة البناء؛ حيث وفقًا لتقدير أولي تبلغ كمية الركام والحطام حوالي 52 مليون طن.

تحويل المخلفات العضوية إلى سماد طبيعي لدعم القطاع الزراعي واسترجاع خصوبة التربة.

إنشاء مكبات آمنة لإدارة النفايات الطبية والصناعية والكيمائية بعيدًا عن المناطق السكنية والزراعية. 

استصلاح الأراضي الزراعية: 

وضع برامج لإزالة الملوثات من التربة بمختلف أنواعها والتخلص الآمن منها بعيدًا عن الرقعة الزراعية، وزراعة نباتات قادرة على امتصاص السموم مثل دوار الشمس والنباتات التي تنقي التربة.

إعادة تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة باستخدام تقنيات الزراعة الحديثة والري.

إدخال أنظمة زراعية مستدامة تعتمد على المحاصيل المقاومة للظروف البيئية المتدهورة.

تبني مشروع لزراعة الأشجار المحلية مثل الزيتون والنخيل والخروب. بالتعاون مع منظمات بيئية لمضاعفة المساحات الخضراء في غزة.

تشجيع زراعة الأحزمة الخضراء حول المدن والمناطق الزراعية لمنع التصحر.

توفير دعم مالي وفني للمزارعين لإعادة بناء مزارعهم وتحسين الإنتاجية.

الخلاصة: هناك عدد من التجارب الدولية الناجحة التي استطاعت فيها الدول بعد الحروب والنزاعات من استعادة البيئة الطبيعية بعد الدمار الذي لحق بها، وحرصت دول مثل فيتنام وألمانيا ورواندا على استثمار مليارات الدولارات في إدماج البعد البيئي مع خطط إعادة الإعمار بعد الحروب، وركزت على مشاريع إدارة النفايات وإعادة التدوير والاعتماد على الطاقة النظيفة، وإعادة التشجير ومكافحة التصحر من خلال زراعة الشجر المقاوم للجفاف والظروف المناخية القاسية. الإعلان عن الخطة المصرية المقترحة لإعادة إعمار غزة خطة طموحة وشاملة، ومع إدماج البعد البيئي في مراحل تنفيذ الخطة يجعلها ليست مجرد إعادة بناء لجدران إسمنتية، بل هي فرصة لإعادة بناء مجتمع أكثر صحة واستدامة. من خلال تبني حلول بيئية مستدامة، يمكننا تحويل غزة إلى نموذج عالمي في إعادة الإعمار الأخضر، حيث يصبح كل مشروع خطوة نحو مستقبل أكثر أمانًا واستدامة للأجيال القادمة.

تم نسخ الرابط