بعد تحول السياسات الخارجية لدول الساحل الإفريقي.. ما مُحفزات التقارب مع روسيا؟

تشهد السياسة الخارجية لدول الساحل الأفريقي تحولًا نوعيًا بالتقارب نحو روسيا، وهو ما اتضح جليًا في إجراء مباحثات رسمية لوزراء خارجية الاتحاد الروسي وتحالف دول الساحل (AES)، في موسكو يومي 3 و4 أبريل 2025، وتُعد هذه المرة الأولى التي تُعقد فيها المشاورات بصيغة رباعية بين روسيا وثلاث دول من تحالف دول الساحل؛ إذ تسعى هذه الدول الثلاث للابتعاد عن التحالفات الغربية وتفكيك الروابط مع الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS)، وبناء هيكل أمني إقليمي جديد، والتعاون مع الدول التي تركز على التفاعل المتساوي القائم على الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة، لذا تأتي هذه الزيارة الرسمية لتعزيز الشراكة بين روسيا ودول تحالف الساحل على كافة الأصعدة؛ الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، وتُحاول هذه الورقة البحثية استعراض السياق المُصاحب للزيارة، وأبرز مخرجات الزيارة وتناول دوافع التقارب بين روسيا وتحالف دول الساحل، والتحديات المُحتملة.
ووفقًا لقراءة في دلالات الجولة الأولى من المباحثات أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، فإنه بناءً على دعوة من حكومة الاتحاد الروسي، عُقدت المشاورات الأولى لوزراء خارجية الاتحاد الروسي واتحاد دول الساحل في موسكو بتاريخ 3 أبريل 2025، وترأس الوفود وزير خارجية الاتحاد الروسي سيرغي لافروف، ووزير الشئون الخارجية والتعاون الدولي في جمهورية مالي عبد الله ديوب، ووزير الخارجية والتعاون الإقليمي لجمهورية بوركينا فاسو كاراموكو تراوري، ووزير الشئون الخارجية والتعاون بالخارج لجمهورية النيجر باكاري ياو سانغاري، وقد شهدت الزيارة الرسمية استعراض عدد من الملفات المهمة، كما أُجري تباحث بشأن تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين، وبحسب البيان المُشترك الصادر في الثالث من أبريل 2025 حول نتائج المشاورات بين وزيري خارجية روسيا الاتحادية واتحاد دول الساحل، فقد صار التوافق بشأن عدد من الأمور، والتي يمكن استعراض أبرزها، وذلك على النحو التالي:
مجال الأمن والدفاع
أعرب الجانبان عن التزامهما بتكثيف الجهود لمكافحة الإرهاب وعدم الاستقرار بجميع أشكاله، كما أعربت روسيا عن التزامها بتسهيل اقتناء معدات عسكرية رئيسية عالية الأداء، وتدريب مناسب للقوة الإقليمية التي أعلن عنها تحالف دول الساحل في يناير 2025 البالغ قوامها 5000 جندي، علاوة على ذلك، أعربت روسيا عن استعدادها لتقديم المساعدة الفنية اللازمة، والجدير بالذكر أن، دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو تعاني من الانتشار الواسع للتنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، وهو ما يُشكل تهديدًا خطيرًا للأمن والاستقرار في المنطقة، ونجد أن دول مالي والنيجر وبوركينافاسو تُعاني من انتشار واسع للجماعاتِ الإرهابية، خاصةً في منطقة “ليبتاكو غورما” الحدوديةِ بين الدول الثلاث، وتُنفذ هذه الجماعات هجمات عنيفة ضد المدنيين والعسكريين، وهو ما يُؤدي إلى سقوط العديدِ من القتلى والجرحى، ونزوح الآلاف من السكان.
تعزيز العلاقات الدبلوماسية
تعد هذه المباحثات فرصة لتبادل الآراء بشأن القضايا محل الاهتمام المُشترك، كما أجري التوافق بشأن نزع الطابع السياسي عن قضايا حقوق الإنسان، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والمساواة في معاملة الدول في الهياكل الدولية، بالإضافة إلى العمل على التنسيق والدعم المتبادل في الهياكل الدولية بشأن القضايا السياسية والجيواستراتيجية الرئيسية على أساس احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة برمتها وعلاقاتها المتبادلة، ولاستمرار التنسيق الدوري بين الطرفين، وأجري الاتفاق بشأن عقد اجتماعات كل عام، وسيعقد الاجتماع الثاني على أراضي الاتحاد في وقت يُحدد بالاتفاق المُتبادل عبر القنوات الدبلوماسية.
التعاون الاقتصادي
أفرزت المباحثات إلى توصل الطرفين إلى التوافق في الآراء بشأن الدور الرئيسي للتعاون الاقتصادي على أساس المنفعة المتبادلة والشراكة، وتكثيف الاتصالات بين الفاعلين الاقتصاديين وتهيئة الظروف المواتية للأعمال التجارية، والجدير بالذكر أن منطقة الساحل غنية بالموارد الطبيعية مثل اليورانيوم والذهب والنفط، ولا شك أن شراكة روسيا الاقتصادية مع دول الساحل، سيمكنها من الوصول إلى هذه الموارد وتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية.
مُحفزات التقارب بين روسيا وتحالف دول الساحل
اتخذ تحالف دول الساحل الذي دُشّن رسميًا في يوليو 2024، مجموعة من الإجراءات لفك الارتباط بين دول الساحل وفرنسا، وكذلك الهياكل الإقليمية ذات الصلة بالنفوذ الفرنسي، وهو ما يمكن استعراضه، وذلك على النحو التالي:
تدهور العلاقات مع فرنسا
شهدت العلاقات بين فرنسا ودول الساحل، وخاصةً النيجر ومالي وبوركينا فاسو.. تدهورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، ويعود ذلك إلى عدة عوامل؛ تشمل: إدانة فرنسا للانقلابات العسكرية التي حدثت في مالي عام 2020، وفي بوركينا فاسو عام 2022، وفي النيجر عام 2023، وطالبت بعودة الحكم المدني؛ مما أثار استياء هذه الدول، كما يُوجّه الاتهام لفرنسا بأنها تعمل على الحفاظ على نفوذها الاستعماري في المنطقة، وممارسة التدخل في شئونها الداخلية، إلى جانب عدم فاعلية القوات العسكرية الفرنسية المتواجدة في منطقة الساحل في مكافحة الجماعات الإرهابية، وقد أدى تنامي المشاعر المعادية لفرنسا في هذه الدول إلى إجبار فرنسا على سحب قواتها من مالي عام 2022، كما اضطرت فرنسا لسحب قوتها الخاصة من بوركينا فاسو بطلب من المجلس العسكري الحاكم؛ إذ بدأ التحرك المعادي لفرنسا في بوركينا فاسو في نهاية 2022 عندما خرجت مظاهرات شعبية تطالب برحيل الجنود الفرنسيين من البلا، كما أعلنت فرنسا في 24 سبتمبر2023، سحب السفير الفرنسي من النيجر ومغادرة الجنود الفرنسيين الـ1500 المتمركزين في النيجر نهاية عام 2023 بعد وجود عسكري امتد عشرة أعوام، علاوة على ذلك، عملت دول تحالف الساحل على التخلص من النفوذ الفرنسي الثقافي والسياسي، وهو ما تجلى في الانسحاب من المنظمة الدولية للفرانكوفونية، فقد اتخذت الدول الثلاث في مارس 2025، قرارًا بالمغادرة من المنظمة، وهو ما يرجع إلى اتهام الدول الثلاث للمنظمة بالتحيز وفرض عقوبات انتقائية، خاصة بعد تعليق عضوية النيجر عقب الانقلاب العسكري في يوليو 2023، وتبني مواقف تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية، كما رأت الدول أن المنظمة أصبحت “أداة سياسية” تخدم مصالح فرنسا، متهمة إياها بالتدخل في شئونها الداخلية وعدم دعم تطلعات شعوبها.
الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا
انسحبت مالي وبوركينافاسو والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ECOWAS بشكل رسمي في أواخر يناير 2025، وبُرّر الانسحاب بناءً على مجموعة من الأسباب؛ العقوبات القاسية التي فرضتها المجموعة الاقتصادية على مالي وبوركينافاسو والنيجر بعد الانقلابات العسكرية، شملت هذه العقوبات تجميد المساعدة المالية وتقييد حركة التجارة، وهو ما يفاقم معاناة الشعب، إلى جانب عدم تقديم المجموعة الاقتصادية الدعم الكافي لمكافحة الإرهاب، خاصة على الحدود المشتركة بين الدول، كما اتهمت الدول الثلاث المجموعة الاقتصادية بأنها مجرد أداة في يد فرنسا، ولا تعمل على تلبية مصالح الدول الأعضاء في غرب أفريقيا.
نسج تحالفات دولية بديلة
هناك رغبة مشتركة من جانب دول تحالف الساحل لتقليل النفوذ الفرنسي، مستندة إلى مشاعر معادية لفرنسا بسبب الارتباطات الاستعمارية السابقة، وهو ما دفع دول تحالف الساحل للبحث عن شركاء دوليين جدد، وهو ما تقاطع مع الرغبة الروسية لملء الفراغ الناتج عن انسحاب القوات الغربية من تحالف دول الساحل، لذا نجد أن روسيا عملت على توظيف هذه المتغيرات لصالحها من خلال التقارب مع تحالف دول الساحل، ويمكن استعراض مظاهر ذلك من خلال تقديم روسيا الدعم العسكري والأمني، فنجد أن هناك حضورًا للفيلق الأفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية في دول تحالف الساحل، كما وقعت العديد من الشركات الروسية الخاصة والمملوكة للدولة العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بشأن التعاون العسكري، وكذلك تعزيز الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب وتنسيق آليات التنسيق خاصة في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، بالإضافة إلى ذلك، هناك سعي روسي لتعزيز التعاون الاقتصادي مع تحالف دول الساحل وضخ استثمارات في مجالات؛ التعدين والزراعة والطاقة.
حدود الدور الروسي في منطقة الساحل
بدت الزيارة التي قام تحالف دول الساحل (AES) إلى موسكو كأنها تدشين لعصر جديد من العلاقات، لكن التساؤل القائم هل ستنجح روسيا في تقديم مقاربة مغايرة عن النموذج الغربي في معالجة التحديات التي تواجه تحالف دول الساحل، ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل، وذلك على النحو التالي:
التحديات الأمنية
تُعد مالي والنيجر وبوركينا فاسو من أكثر الدول تعرضًا للهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، وتنشط في هذه الدول عدد من التنظيمات الإرهابية، والتي أبرزها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) والتي تُعتبر الذراع الرسمي لتنظيم القاعدة في مالي، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQIM) والذي ينشط في شمال مالي، وتنظيم أنصار الدين الذي تأسس عام 2012 على يد إياد أغ غالي، وقد انضم التنظيم إلى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين عام 2017، وتعمل هذه المجموعات على توظيف الهشاشة الأمنية وتدهور الأوضاع الاقتصادية لتعزيز حضورها في المنطقة، وهو ما يُشكل تهديدًا للأمن الإقليمي.
وفى ضوء الاستعراض السابق، نجد أن التقارب بين روسيا ودول تحالف الساحل، ربما سيسهم في تقليل النفوذ الغرب، وفيما يتعلق بمعالجة التهديدات الإرهابية، لا شك أن التصريحات الرسمية الصادرة من جانب روسيا، تكشف التعهد الروسي بتوفر التدريب العسكري والأسلحة والعمل على تعزيز قدرات الجيوش الوطنية، وهو ما سيسهم في تعزيز السيادة الوطنية، لكن نجد أن قوات “فاغنر” التي نشرت في مالي عام 2021 لدعم الجيش المالي ضد المتمردين الطوارق والمجموعات الإسلامية المرتبطة بالقاعدة، قد تعرضت لانتكاسة كبيرة في شمال مالي في يوليو 2024، فقد وقعت المعركة في بلدة تينزواتن قرب الحدود مع الجزائر، وواجهوا ما لا يقل عن مئات من الانفصاليين، معظمهم من جماعة الطوارق العرقية، الذين يقاتلون من أجل الاستقلال في شمال مالي، وقد أسفرت هذه المعركة عن مقتل لا يقل عن 46 مقاتلًا من قوات “فاغنر” و24 جنديًا ماليًا، وتكشف هذه الواقعة عن القدرات الفعلية لقوات ” فاغنر” بأنها غير قادرة على التعامل مع البيئة الأمنية المُعقدة في مالي، ونجد أنه ربما سيقوم الفيلق الأفريقي الذي حل محل ” فاغنر” بتغيير تكتيكات المواجهة لمعالجة التهديدات الأمنية في منطقة الساحل.
التحديات الاقتصادية
تعاني هذه الدول من تردي الأوضاع الاقتصادية، فعلى الرغم من أن دول تحالف الساحل تتسم بأنها غنية بالموارد الطبيعية، فإن هذه الدول تعاني من الفقر، اعتمادًا على التقارير الصادرة عن البنك الدولي، بلغ معدل الفقر المدقع في مالي 19.1% في 2022، كما أن الفقر يتركز في المناطق الريفية؛ حيث تشكل 90% من الفقراء؛ مما يعكس الحاجة إلى استثمارات أكبر في البنية التحتية والخدمات الأساسية، كما لا يزال الفقر يمثل تحديًا كبيرًا في النيجر، ففي عام 2024، بلغ معدل الفقر المدقع 45.3٪، وبحسب تقدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (UNOCHA)فإنه في عام 2025 سيحتاج 4.8 ملايين شخص إلى مساعدات إنسانية، بما في ذلك أكثر من 3 ملايين بحاجة إلى مساعدات غذائية طارئة خلال موسم العجاف القادم، كما يعتمد اقتصاد بوركينافاسو بشكل أساسي على الزراعة والتعدين، وخاصة إنتاج الذهب، يعيش أكثر من 40٪ من السكان تحت خط الفقر، وفي عام 2024 بلغ معدل الفقر المدقع 24.9٪، إلى جانب أن هذه الدول عُرضة للتغيرات المناخية مثل الجفاف والفيضانات المتكررة، وهو ما يؤدي إلى تفاقم مشاكل مثل التصحر ونزوح ملايين الأشخاص وتدمير المحاصيل الزراعية، وهو ما يؤدي إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي، علاوة على ذلك، أدى انسحاب الدول الثلاث من الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ECOWAS في 29 يناير 2025 إلى التأثير سلبًا في التكامل الإقليمي وعرقلة حركة الأشخاص والبضائع.
وفي ضوء ما سبق ذكره، هل ستعالج روسيا التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه تحالف دول الساحل، يمكن الإجابة على هذا التساؤل من خلال استعراض أن العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا في سياق غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، قد أضعف من القدرات الاقتصادية لروسيا، ويمكن استعراض أبرز المؤشرات؛ فقد انخفضت قيمة الروبل بأكثر من نصف قيمته مقابل الدولار واليورو، كما تعرض أكثر من 70% من الأصول المصرفية الروسية للعقوبات، كما أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي يتراجع بنسبة 10-12% عن مستويات ما قبل الغزو بعد ثلاث سنوات من الحرب، كما يتوقع صندوق النقد الدولي نموًا بطيئًا بمعدل 1% سنويًا في المستقبل، وفي ضوء هذه المؤشرات الاقتصادية، يُمكن القول إن المقاربة الروسية حيال تحالف دول الساحل، من المُحتمل ألا تتسم بالفاعلية في معالجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانعدام الأمن الإنساني وضعف المؤسسات، وهو ما يعني أن هذا النموذج لن يُقدم حلولًا مُستدامة للتحديات الهيكلية التي تواجه دول الساحل، لا سيما معالجة جذور المشاكل الاقتصادية، مثل ضعف البنية التحتية والوصول المحدود إلى الأسواق العالمية، وهو ما يشير إلى أن النموذج الروسي يفتقر إلى الإمكانيات المالية واللوجستية الكبيرة التي قدمها الغرب.
مُجمل القول، يشير التقارب بين روسيا وتحالف دول الساحل إلى تشكيل كتلة إقليمية في الساحل الأفريقي مُناهضة للنفوذ الغربي ومُوالية للسياسات الروسية التي تُقدم دعمًا على كافة الأصعدة لدول تحالف الساحل دون شروط سياسية صارمة. ولا شك أن التحالف بين روسيا وتحالف دول الساحل، سيكون محل اختبار وتقييم، وهو ما يتطلب متابعة التفاعلات بين الطرفين، لمعرفة هل ستقدم روسيا نموذجًا يُحتذى به لمعالجة التحديات التي تواجه تحالف دول الساحل أم أن الأوضاع ستزداد تدهورًا في المنطقة.