اضطراب طيف التوحد: من متلازمة كانر إلى التصنيف الحديث

يُعد التوحد واحداً من أكثر الاضطرابات العصبية تعقيداً، إذ يؤثر بصورة مباشرة على مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي، ويُظهر أنماطاً سلوكية متكررة قد تختلف من فرد إلى آخر. ومع التقدم الطبي والبحثي، تطورت طرق تصنيفه وتحديد أنواعه، ليتحوّل من كونه اضطراباً واحداً إلى طيف واسع من الأعراض والمظاهر. ورغم اعتماد التصنيف الحديث منذ عام 2013، لا تزال العديد من المصطلحات القديمة متداولة، مما يتطلب فهماً دقيقاً وشاملاً للأنواع المختلفة التي تقع ضمن ما يُعرف اليوم بـ "اضطراب طيف التوحد"
التصنيف القديم للتوحد: نظرة إلى بدايات الفهم
قبل إدراج جميع الحالات ضمن طيف موحّد، صنف الأطباء التوحد إلى عدة أنواع مستقلة بناءً على الأعراض السريرية التي يظهرها كل فرد. ومن أبرز هذه الأنواع:
متلازمة كانر (Kanner’s Syndrome)
هي أقدم أنواع التوحد الموثقة علمياً، وتُنسب إلى الطبيب النفسي "ليو كانر" الذي وصفها لأول مرة عام 1943. وقد عُرفت وقتها باسم "التوحد الطفولي المبكر"، حيث تظهر الأعراض قبل سن الثلاثين شهراً، وتتمثل في صعوبة اكتساب اللغة، اضطراب في الكلام، وغياب التفاعل الاجتماعي الطبيعي.
يتطلب المصابون بمتلازمة كانر دعماً خاصاً، إذ تعتبر من أشد صور التوحد. لكن مع التدخل المبكر والعلاج المتخصص، يمكن تحسين قدراتهم تدريجياً وتعزيز فرص اندماجهم المجتمعي.
متلازمة أسبرجر (Asperger’s Syndrome)
رغم أنها صُنفت سابقاً كنوع مستقل من التوحد، إلا أنها أصبحت اليوم جزءاً من طيف التوحد الحديث. تتميز هذه المتلازمة بوجود مهارات لغوية وذهنية جيدة، مقابل صعوبات واضحة في فهم المشاعر والتفاعل الاجتماعي. كثيراً ما يوصف المصابون بمتلازمة أسبرجر بأنهم ذوو ذكاء عالٍ وأداء أكاديمي قوي، لكنهم يواجهون تحديات في العلاقات الاجتماعية اليومية.
متلازمة ريت (Rett Syndrome)
تصيب هذه المتلازمة الإناث بشكل رئيسي، وغالباً ما تعود أسبابها إلى طفرة في جين MECP2. تبدأ أعراضها في الظهور بعد فترة من النمو الطبيعي، لتبدأ لاحقاً بالتراجع، حيث تفقد الطفلة المهارات الحركية واللغوية، وتُظهر حركات يدوية متكررة مع صعوبة في التنفس والنمو العصبي. تمر هذه المتلازمة بأربع مراحل، تبدأ بتباطؤ النمو ثم فقدان المهارات، مما يجعلها من الاضطرابات الشديدة التأثير على نمط الحياة.
اضطراب التفكك الطفولي (CDD)
يعاني الطفل في هذا النوع من فقدان مفاجئ للمهارات التي اكتسبها سابقاً، مثل الكلام، والمهارات الحركية، والتواصل الاجتماعي. وغالباً ما يظهر هذا الاضطراب بعد عمر الثالثة، ويعتبر من الأنواع النادرة، لكن تأثيره يكون عميقاً على تطور الطفل الطبيعي، مما يتطلب رعاية دقيقة وتدخلاً علاجياً خاصاً.
اضطراب النمو المنتشر غير المحدد (PDD-NOS)
يُعرف أيضاً بالتوحد غير النمطي، ويُستخدم عندما لا يستوفي الطفل جميع المعايير التشخيصية للتوحد الكلاسيكي، لكنه يُظهر بعض السلوكيات المتشابهة. ويتميز هذا النوع بعدم وضوح الأعراض أو شدتها، حيث تتفاوت من خفيفة إلى متوسطة. وفي التصنيف الجديد، تم إدراجه ضمن طيف التوحد العام.
منذ عام 2013، اعتمد الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) تصنيفاً جديداً لاضطراب التوحد، يجمع كل الأنواع السابقة تحت مصطلح واحد: "اضطراب طيف التوحد (ASD)". وبدلاً من تقسيمه إلى أنواع، أصبح يُصنَّف حسب شدة الأعراض ودرجة الدعم الذي يحتاجه الفرد، وذلك عبر ثلاث مستويات رئيسية:
- يحتاج إلى دعم بسيط: يُظهر المصاب صعوبة في بدء التفاعل الاجتماعي أو تفسير الإشارات الاجتماعية الدقيقة، لكنه قادر على التفاعل بدرجة مقبولة عند حصوله على دعم محدود.
- يحتاج إلى دعم كبير: تظهر صعوبات واضحة في التواصل اللفظي وغير اللفظي، حتى مع وجود دعم، وتكون الأنماط السلوكية المتكررة أكثر وضوحاً وتأثيراً على الأداء اليومي.
- يحتاج إلى دعم مكثف جداً: يتسم بشدة الاضطراب، حيث يكون الفرد غير قادر تقريباً على التفاعل مع الآخرين، ويُظهر سلوكيات مقيدة تؤثر بشكل كبير على حياته الاجتماعية والتعليمية.
التوحد: هل يوجد علاج؟ وما أفضل طرق الدعم؟
رغم عدم وجود علاج نهائي لاضطراب التوحد، فإن التدخل المبكر يمثل حجر الأساس لتحسين الحالة. وتوصي المؤسسات المتخصصة مثل "Autism Speaks" باتباع برامج علاجية شاملة تشمل:
- العلاج السلوكي: يُستخدم لتعديل السلوكيات السلبية وتعزيز المهارات الاجتماعية.
- العلاج بالكلام: يُساعد في تطوير اللغة ومهارات النطق.
- العلاج الوظيفي: يهدف إلى تحسين القدرة على القيام بالأنشطة اليومية.
- الأدوية: لا تعالج التوحد بحد ذاته، لكنها تُستخدم لتقليل الأعراض المصاحبة مثل القلق أو فرط الحركة.
كما أن للدعم الأسري والمجتمعي دوراً لا يمكن الاستهانة به، إذ يشكل بيئة آمنة ومحفّزة تسهم في بناء شخصية المصاب وتمنحه الثقة لمواجهة التحديات.
يبقى التوحد اضطراباً واسع الطيف، يختلف من شخص إلى آخر، ما يجعل التشخيص الدقيق وتحديد مستوى الدعم المطلوب من الأمور الأساسية في التعامل معه. إن إدراك المجتمع للفروقات الفردية بين المصابين، وتوفير بيئة تعليمية وصحية ملائمة، يسهم في تحسين جودة حياتهم بشكل كبير. كما أن التشخيص المبكر ووضع خطة علاجية متكاملة يمثلان عاملين حاسمين في تمكين المصابين من الاندماج والنجاح في حياتهم