عاجل

لم يكد الناس من سكرات تحريك أسعار المحروقات إلا وعاجلنا محافظ البنك المركزي بتصريح حول سعر صرف الجنيه وأنه لا يمكن تثبيته وهو تصريح لا يمكن أن يمر مرور الكرام خاصة في خضم التحولات الاقتصادية التي تعصف بالعالم حيث تقف مصر عند مفترق طرق محاولة أن توازن بين ضرورات الإصلاح وضغوط الواقع وبين مقتضيات السوق ومطالب المواطن وفي هذا السياق المتشابك يعد تصريح محافظ البنك المركزي كاشفا ترسم ملامح المسار المقبل فهذا التصريح ليست مجرد بيان مالي بل تعبير عن خيار اقتصادي له أثره العميق في حياة الناس وفي قوتهم اليومي وفي مستقبلهم حيث يتجلى سعر الصرف المرن على المواطن في مجموعة من التأثيرات اليومية المباشرة وغير المباشرة بعضها سلبي في المدى القصير والبعض الآخر يمكن أن يكون إيجابيا على المدى المتوسط والطويل إذا تم تنفيذ إصلاحات اقتصادية موازية تراعي العدالة الاجتماعية وتوفر الحماية للفئات الأكثر هشاشة.

وأقرب الآثار والانعكاسات هي ارتفاع أسعار السلع والخدمات لأن مصر تعتمد بشكل كبير على الاستيراد خاصة في الغذاء والوقود والمواد الخام وانخفاض قيمة الجنيه يؤدي إلى زيادة تكلفة هذه الواردات وهو ما ينعكس مباشرة على أسعار السلع في الأسواق ليلاحظ المواطن هذا من خلال الغلاء في الأسعار اليومية للغذاء والدواء والأجهزة وحتى الخدمات ومع ارتفاع الأسعار دون زيادة موازية في الأجور تتآكل القدرة الشرائية للمواطن خصوصا للطبقات المتوسطة والفقيرة مما يرفع معدلات الضغط الاقتصادي على الأسر ويزيد من الأعباء المعيشية.

وعلى صعيد آخر ستهتز معركتنا مع التضخم ما يعني أن قيمة النقود نفسها تتراجع وبالتالي تتراجع معها القدرة على الادخار أو حتى تغطية الاحتياجات الأساسية أما التأثيرات غير مباشرة على المدى المتوسط والطويل فمع ارتفاع تكلفة الاستيراد تصبح المنتجات المحلية أكثر تنافسية مما قد يشجع المصانع والمزارع على زيادة الإنتاج وهذا قد يؤدي إلى توفير فرص عمل جديدة وتحسين الدخل على المدى الأطول وانخفاض قيمة الجنيه يجعل من الصعب استيراد السلع الكمالية أو غير الضرورية ما قد يساعد على تقليص العجز التجاري ويوجه الإنفاق إلى القطاعات الإنتاجية داخل البلاد وإذا استطاعت الدولة استغلال سعر الصرف المرن لخلق مناخ استثماري أكثر شفافية فإن ذلك قد يؤدي إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتوفير موارد أكبر للموازنة العامة يمكن توجيهها لتحسين الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والنقل.

ولكيلا يتحمل المواطن العبء الأكبر من هذه السياسة من الضروري أن تتبنى الدولة إجراءات حمائية كتوسيع شبكات الدعم النقدي وضبط الأسواق ومراقبة الأسعار للحد من الاستغلال وتحسين الأجور والمعاشات بشكل يتناسب مع التضخم بالغضافة إلى دعم الإنتاج المحلي وتوفير السلع الأساسية بأسعار مدعومة فبينما تمثل سياسة سعر الصرف المرن ضرورة اقتصادية لمصر في المرحلة الراهنة فإن انعكاساتها على المواطن  وخاصة الفئات المحدودة الدخل تكون قاسية في المدى القصير من حيث الغلاء وتآكل الدخل لكن هذه السياسة قد تفتح المجال أمام إصلاح اقتصادي أوسع يعزز فرص العمل والاستثمار والاعتماد على الذات شريطة أن ترافقها سياسات عادلة ومنصفة لحماية المواطن وضمان التوازن الاجتماعي.

نعم نواجه ضغوطا اقتصادية صعبة والأسعار ترتفع والدخل لا يكفي أحيانا لتلبية الاحتياجات الأساسية والتساؤل هنا لماذا لا تثبت الدولة سعر الجنيه لتوقف هذا الغلاء والحقيقة أن تثبيت السعر في ظل الأوضاع الحالية لا يعني الاستقرار بل يعني أن الدولة تنفق من احتياطاتها المحدودة وتؤجل الأزمة بدلا من حلها مثلما تضطر الأسرة أحيانا لتغيير بعض عاداتها حتى لا تنفد مواردها فإن الدولة تتخذ قرارات صعبة حتى تضمن استمرار قدرتها على توفير السلع والخدمات ودفع المرتبات ودعم الغذاء والدواء واتباع سياسة سعر صرف مرن لا يعني ترك المواطن وحده في وجه الغلاء بل يجب السعى بجهد أكبر على تعزيز الحماية الاجتماعية وزيادة الدعم النقدي للفئات الأكثر احتياجا وضبط الأسواق من جشع البعض وتشجيع الإنتاج المحلي لنوفر فرص العمل ونقلل الاعتماد على الخارج.

نعم إن الطريق ليس سهلا والإصلاح له كلفته لكننا نعبر مرحلة دقيقة لا داعم لنا فيها بعد الله سوى وعينا وصبرنا لنحقق اقتصادا أقوى وجنيها أكثر ثباتا وحياة أكثر سعادة.

 

 

تم نسخ الرابط