ما حكم كلام القائمين على المسجد أثناء خطبة الجمعة لتنظيم الناس؟
في ظل حرص الشريعة الإسلامية على تعظيم شعيرة صلاة الجمعة، وما يصاحبها من آداب وسكينة وإنصات لخطبة الإمام، يثور تساؤل يتكرر في كثير من المساجد، خاصة مع الزحام وكثرة المصلين
ما حكم كلام القائمين على شؤون المسجد أثناء خطبة الجمعة لتنظيم حركة الناس وترتيب أماكن الجلوس؟
أكدت دار الإفتاء على إجازة الشريعة للقائمين على شؤون المسجد التحدث أثناء خطبة الجمعة إذا وُجدت حاجة تدعو إلى ذلك، مثل تنظيم حركة المصلين أو ترتيب أماكن الجلوس، مع التأكيد على أنه إذا كانت الإشارة كافية وتغني عن الكلام أو الحركة، فيُستحب الاكتفاء بها، حرصًا على نيل الثواب وزيادة الأجر، وحفاظًا على السكينة والهدوء، حتى يتحقق الإنصات المطلوب من المصلين.
بيان فضل التبكير لصلاة الجمعة
أوجب الشرع الشريف صلاة الجمعة على المسلم الحر العاقل البالغ المقيم، الخالي من الأعذار المبيحة للتخلف عنها، وأمره بتقديم السعي والحضور إليها على كل عمل؛ فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وقد حثنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التبكير إليها؛ لننال عظيم الأجر في الآخرة، فقال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا» أخرجه الإمام الترمذي، والإمام النسائي في سننهما من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه.
من الآداب الشرعية التي ينبغي التحلي بها أثناء خطبة الجمعة الإنصات والاستماع
وحدد لنا صلى الله عليه وآله وسلم آدابًا شرعية ينبغي على المصلي أن يتحلى بها، منها: الإنصات والاستماع في أثناء الخطبة؛ لكونهما سببًا في مغفرة الذنوب والآثام بينه وبين الجمعة الأخرى، فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى» متفق عليه.
ومعنى الإنصات: هو السكوت، ومعنى الاستماع: هو شغل الآذان بالسماع والإصغاء للمتكلم.
قال الإمام النووي في روضة الطالبين وعمدة المفتين فيما ينبغي على المأمومين فعله أثناء الخطبة: ينبغي للقوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الإمام، وينصتوا، ويسمعوا. والإنصات: هو السكوت. والاستماع: هو شغل السمع بالسماع.
ومن مقتضيات الإنصات والاستماع للخطبة عدم الكلام.
حكم الإنصات والاستماع لخطبة الجمعة وحكم الكلام في أثنائها
قد اختلف الفقهاء في حكم الإنصات والاستماع لها والكلام في أثنائها: فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والإمام الشافعي في القديم، والحنابلة في رواية، إلى أنه يجب على المصلي أن ينصت ويستمع للخطبة ويحرم عليه الكلام في أثنائها؛ لما في ذلك من إبطال لمعناها وإزالة لفائدتها، فمن تكلم عامدًا كان عاصيًا، ومن تكلم جاهلًا كان لاغيًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ولنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك في قوله: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» متفق عليه.
ومعنى «فَقَدْ لَغَوْتَ»: أي: قلت اللغو، وهو: الكلام الملغي الساقط الباطل المردود.
قال الإمام الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع في بيان ما يجب على المصلي فعله أثناء خطبة الجمعة: يجب عليه أن يستمع ويسكت، وأصله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، قيل: نزلت الآية في شأن الخطبة، أمر بالاستماع والإنصات، ومطلق الأمر للوجوب.
وقال الشيخ الخرشي المالكي في شرحه على مختصر خليل: الكلام والإمام يخطب محرم؛ لوجوب الإنصات، ولا خلاف فيه.
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات: قال ابن حبيب: ولا بأس أن يتحدث الناس ويتحلقون والإمام جالس على المنبر للأذان، فإذا أخذ في الخطبة أنصتوا وأصغوا واستقبلوه.
وقال الإمام النووي الشافعي في روضة الطالبين عن حكم الإنصات والكلام أثناء الخطبة: هل الإنصات فرض، والكلام حرام؟ فيه قولان. القديم والإملاء: وجوب الإنصات، وتحريم الكلام.
حكم صلاة من تكلم أثناء خطبة الجمعة، وهل تجب إعادة الصلاة؟
مع خلاف الفقهاء في حكم الإنصات والاستماع لخطبة الجمعة إلَّا أنَّهم أجمعوا على أنَّ من تكلم ولغا لم يعد الجمعة وصلاته صحيحة شرعًا ولكن ثوابها ناقص، نقل هذا الإجماع الإمام أبو الحسن ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع فقال: وقد أجمعوا على أنَّ من تكلم ولغا لم يعد الجمعة.
ولا معارضة بين الحكم بصحة صلاة من تكلم وبين ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه: «وَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ» أخرجه الإمام أحمد؛ لأنَّ معنى “لَا جُمُعَةَ لَهُ” أي: كاملة الثواب، ولا يُراد به: بطلان جمعة من تكلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في معنى الحديث: قال العلماء معناه: “لَا جُمُعَةَ لَهُ” كاملة؛ للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه.
حكم كلام العاملين على المسجد في أثناء خطبة الجمعة لتنظيم حركة الناس
ما يفعله القائمون على المسجد من كلام أو إشارة أثناء الخطبة؛ لتنظيم حركة الناس في المسجد والأماكن التي يجلسون فيها عند الزحام أمر فيه مصلحة العامة وليس فيه حرمة ولا يبطل ثوابها.
والدليل على عدم بطلانها بالإشارة أيضًا: ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت، فسأله ثلاث مرات، كل ذلك يشيرون إليه أن اسكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الثالثة: «وَيْحَكَ! مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ولم ينكر صلى الله عليه وآله وسلم الإشارة منهم.
بل قد ذهب الفقهاء إلى وجوب الكلام أو الإشارة في أثنائها، إذا كانت هناك ضرورة لذلك أو حاجة، كالتحذير من الضرر أو الأذى الذي قد يصيب أحد المصلين أو غيرهم من المارة؛ لأنَّ الإنذار يجب لحق الآدمي والإنصات لحق الله تعالى ومبناه على المسامحة، فالصلاة تقطع لذلك.
قال الإمام زين الدين ابن نجيم المصري الحنفي في البحر الرائق: لو رأى رجلًا عند بئر فخاف وقوعه فيها أو رأى عقربًا تدب إلى إنسان، فإنه يجوز له أن يحذره وقت الخطبة؛ لأن ذلك يجب لحق آدمي، وهو محتاج إليه، والإنصات لحق الله تعالى ومبناه على المسامحة كما في السراج الوهاج.
وعليه: فالأصل الإنصات والاستماع وعدم الكلام في أثناء خطبة الجمعة؛ لتحصيل كل كلمة تخرج من فم الخطيب، إلَّا أنَّه قد لا يحرم الكلام في أثنائها؛ لضرورة أن يكون فيها إزالة ضرر قد يصيب إنسانًا أو حاجة تحقق الأصل فيه، كتنظيم حركة الناس؛ لتحقيق أكثر استفادة يحصلها المصلي من الخطيب



