ما حكم وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء؟.. الإفتاء توضح
في ظل تنوّع المهن الحديثة وتداخلها مع تفاصيل الحياة اليومية، تتجدد الأسئلة حول كيفية أداء العبادات وسط ضغوط العمل ومتطلباته. ويبرز تساؤل ما حكم وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء؟
ما حكم وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء؟
أكدت دار الإفتاء أنه يصح وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء؛ لأن الطهارة تصح مع وجود بعض المواد الملتصقة على بشرة أعضاء الطهارة لأصحاب المهن والصناعات الذين يشق عليهم التحرز منها -كما ورد بالسؤال-؛ ولا يلزمهم تَكَلُّف إزالة ما يصعب إزالته لكلِّ صلاة.”
فضل العمل في الإسلام
حثَّ الشرع الشريف على العمل والإتقان فيه، وأَعْظَم من شأن أصحاب الأعمال، فجعل مَن يقوم بعمل يوفر له معاشه ويسد حاجته، أفضل عند الله تعالى ممَّن ينشغل بتحصيل النوافل من العبادات تاركًا غيره يعمل ليعوله ويقوم عليه؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».
وعن المقدام رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخرجهما البخاري في الصحيح.
قال العلامة البرماوي في اللامع الصبيح:
خيرًا؛ أي: لما فيه من إيصال النفع إلى الكاسب وإلى غيره، وللسلامة عن البطالة المؤدية إلى الفضول، ولكسر النفس به، وللتعفف عن ذل السؤال.
وعن إبراهيم التيمي أنه قال: “لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام رجلًا، فقال له: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: من يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك.
وعن مسلم بن يسار رحمه الله: أن رُفقة من الأشعريين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: يا رسول الله ما رأينا أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من فلان؛ يصوم النهار، فإذا نزلنا قام يصلي حتى نرتحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يَمُونُهُ، أَوْ يَكْفِيهِ، أَوْ يَسْعَى عَلَيْهِ؟» قالوا: نحن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتُمْ أَعْبَدُ مِنْه».
رفع الحرج والمشقة عن أصحاب الأعمال عند الضرورة
من تقدير الشرع الشريف لقيمة العمل في حياة الأفراد والمجتمعات، جعله من الأسباب التي يُباح لأجلها الترخص أو التخفيف في شأن القيام ببعض العبادات، وذلك في حالة ما إذا تعارض قيام الإنسان بعمله الذي لا بد له منه من أجل تحصيل معاشه ورزقه، مع قيامه بالعبادة على أصل مشروعيتها، بحيث يكون في تكليفه بها على هذا الوجه ما يشق عليه مشقة بالغة، أو يضطره إلى ترك عمله وما قد يترتب عليه من فوات ما به رزقه ورزق مَن يعول من أهله، فيباح حينئذ له القيام بها على وجه يرفع عنه الحرج والمشقة، ويمكنه مع ذلك من القيام بعمله وتحصيل رزقه؛ عملًا بعموم قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان.
حيث قررت هذه الأدلة بمجموعها أن المشقة تجلب التيسير، وأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وأن الأعذار مؤثرة بالتخفيف في العبادات.
وقال الحافظ السيوطي في الأشباه والنظائر:
المشقة تجلب التيسير، وإن شئت قلت: إذا ضاق الأمر اتسع.
وقال العلامة ابن عطية في المحرر الوجيز:
ظاهر الآية وأمر الشريعة: أن الحرج عنهم مرفوع في كلِّ ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص؛ فالحرج مرفوعٌ عنهم في هذا.
وقال العلامة الشاطبي في الموافقات:
فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾. ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدًا للحرج والعسر، وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دِين الأمة ضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.
والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها.
حكم الطهارة عند وجود عذر يمنع وصول الماء للبشرة
اشتراط الفقهاء لصحة الطهارة عموم البشرة بالماء على سائر أعضاء الوضوء، هو الأصل الذي يلزم المتطهر في حال عدم العذر المانع له من القيام بذلك، كما في مراقي الفلاح للشرنبلالي الحنفي، والشرح الكبير للدردير المالكي.
أما في حالة قيام العذر: كأن يعمل الإنسان بعمل من الأعمال التي لا يمكن له معها الاحتراز عما يلحق بشرته من المواد المستخدمة فيها مما يمثل حائلًا لوصول الماء إلى ما التصقت به من البشرة، كمواد الدهان والغراء وما أشبه ذلك، بحيث يتعذر عليه مع ذلك إزالة ما يلتصق بجلده منها لكل وضوء، لضيق في الوقت مع ضرورة العمل أو لصعوبة في نزعها، فإنه يُعفى عن هذا القدر الذي لم تصله الماء، ويقوم إسالة الماء على هذا الحائل مقام إسالتها على ما بعده من أعضاء الطهارة، وذلك لتحقق العذر والضرورة، وأنه لا يمكنه التحرز عن هذا، فوقوع ذلك في حقه هو مما تعم به البلوى، وقد تقرر أن ما كثرت بليته خفت قضيته، وأن عموم البلوى يرفع المشقة، وكل ما لا يمكن الاحتراز عنه، ولا يستطاع الامتناع منه سقط اعتباره، كما في الأشباه والنظائر لابن نجيم، وتبيين الحقائق للزيلعي.
وقد تواردت نصوص فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنه يُعفى لأصحاب المهن والأعمال عما قد يلحق أعضاء الطهارة من حوائل تمنع وصول الماء إلى البشرة أثناء الطهارة مما يشق عليهم التحرز عنه، كالطين للفلاح، والمداد للكاتب، والصبغة للصَبّاغ، ونحو ذلك مما يصعب نزعه لكل طهارة.
قال الشرنبلالي الحنفي في مراقي الفلاح:
ولا يمنع الدرَن أي وسخ الأظفار سواء القروي والمصري في الأصح، فيصح الغسل مع وجوده، ولا يمنع خرء البراغيث ونحوها وصول الماء إلى البدن؛ لنفوذه فيه لقلته وعدم لزوجته، ولا ما على ظفر الصباغ من صبغ؛ للضرورة، وعليه الفتوى.
وقال الطحطاوي الحنفي:
وسخ الأظفار ودرن سائر الأعضاء بالإجماع؛ لأنه متولد عن البدن، ولأن الماء ينفذ فيه لقلته، بل ولو منع؛ دفعًا للحرج. وقال: في المختار من الروايتين: إنه لا يجب.
وقال الحطاب المالكي في مواهب الجليل:
قال مالك في الموازية: فيمن توضأ وعلى يديه مداد فرآه بعد أن صلى على حاله: إنه لا يضره ذلك إذا أمر الماء على المداد، ثم قال: إذا كان الذي كتب، كأنه رأى أن الكاتب لا يمكنه الاحتراز عن ذلك بخلاف غير الكاتب



