عاجل

يشهد الملف التربوي في مصر حراكًا واسعًا خلال الأشهر الأخيرة، بعد أن تصدّر موضوع العنف والانفلات الأخلاقي داخل المدارس واجهة النقاش العام، مما دفع رئيس الجمهورية إلى إصدار حزمة من التوجيهات الواضحة لمواجهة الظاهرة باعتبارها تهديدًا مباشرًا للأمن المجتمعي، ولمنظومة القيم التي يقوم عليها بناء الإنسان المصري. هذه التوجيهات لم تقتصر على الدعوة إلى ضبط السلوكيات، بل تجاوزت ذلك إلى وضع إطار شامل يستهدف معالجة الأسباب قبل النتائج، والوقاية قبل العقاب.
أولى الآليات التي أكدتها القيادة السياسية هي تعزيز دور المدرسة التربوي، إذ لم تعد المدرسة مؤسسة تعليمية فقط، بل فضاءً لبناء الشخصية. لذلك فإن إعادة إحياء “الانضباط المدرسي” لم تعد رفاهية، بل ضرورة تُعنى بتنظيم الوقت، واحترام القواعد، وحسن التعامل، وضمان بيئة يشعر فيها الطالب بالأمن النفسي والاجتماعي. هذا يتطلب تطوير لوائح السلوك والجزاءات، وتفعيلها بشكل يحفظ كرامة الطالب ويحقق الردع في الوقت ذاته.
وفي السياق ذاته، برزت أهمية تدريب المعلّمين على مهارات إدارة الصف والتواصل النفسي، لأن كثيرًا من حالات العنف – سواء بين الطلاب أو ضد أعضاء هيئة التدريس – يعود إلى غياب مهارات الاحتواء، أو ضعف القدرة على التعامل مع السلوكيات المنفلتة بطرق تربوية فعّالة. ومن هنا جاء التركيز الرئاسي على تمكين المعلمين معرفيًا ومهنيًا، ورفع قدراتهم لمواجهة التغيرات السلوكية الناتجة عن التطورات الرقمية والاجتماعية السريعة.
كما جاءت التوجيهات بضرورة تفعيل دور الأخصائي النفسي والاجتماعي داخل المدارس. فالظاهرة ليست مجرد “سوء سلوك” بل انعكاس لضغوط اقتصادية ونفسية، وتغيرات في البيئة الأسرية، وتراجع في منظومة القدوة. ومن ثم فإن وجود أخصائيين قادرين على التشخيص المبكر، وتقديم جلسات الإرشاد، وإطلاق برامج الدعم النفسي السلوكي، يمثل خط الدفاع الأول ضد اتساع رقعة العنف.
ولا يمكن الحديث عن مواجهة الانفلات الأخلاقي دون الإشارة إلى دور الأسرة. فقد شدّد الرئيس على تعزيز الجسور بين المدرسة والبيت، واستعادة التعاون الحقيقي في متابعة الأبناء. فالمدرسة لا تستطيع بمفردها معالجة آثار المحتوى العنيف المنتشر على منصات التواصل، أو غياب الرقابة الأسرية، أو بيئات تفتقر للحوار. لذلك تأتي فكرة “مجالس الآباء” المتطورة كمنصة للتواصل المستمر، وتبادل المعلومات، وتنسيق الأدوار.
أما على المستوى المجتمعي، فقد طرحت التوجيهات رؤية تقوم على تنسيق جهود الدولة ووسائل الإعلام ومؤسسات الوعي الثقافي والديني، لصياغة خطاب تربوي واضح يواجه حالة العنف اللفظي والجسدي، ويعيد تعريف الاحترام والاختلاف والانتماء. فالسلوكيات التي تظهر في المدارس ليست منعزلة عن خطاب عام يشيع التشدد والتنمّر والعدوانية.
برأيي، إن مواجهة العنف المدرسي ليست مجرد حملة مؤقتة، بل مشروع وطني لإعادة بناء الإنسان. والنجاح في ذلك يتطلب منظومة متكاملة: قوانين مُفعّلة، معلمين مؤهلين، مدارس آمنة، أُسر متعاونة، وإعلامًا مسؤولًا. التوجيهات الرئاسية وضعت الهيكل، ويبقى التنفيذ المتواصل، والمتابعة الدقيقة، والجرأة في محاسبة المقصّرين، هي الضمانة الحقيقية لاستعادة المدرسة المصرية دورها الأصيل: صناعة أجيال واعية وقادرة على بناء مستقبل أكثر اتزانًا وسلامًا.

تم نسخ الرابط