عاجل

مساجد تاريخية | جامع قايتباي بالروضة.. شاهد مملوكي على ضفاف النيل

مسجد قاتباي بالروضة
مسجد قاتباي بالروضة

يعد مسجد السلطان الأشرف أبو النصر قايتباي بالروضة واحدا من الشواهدالمعمارية المهمة على فنون العمارة المملوكية في مصر، رغم ما مر به من حوادث أدّت إلى فقدان جانب كبير من زخارفه الأصلية, ويقع المسجد بشارع جامع قايتباي بالروضة، ويتبع منطقة آثار مصر القديمة، ليشكّل مع غيره من آثار تلك المنطقة لوحة حضارية نابضة بتاريخ القاهرة الإسلامية.

جذور تاريخية تعود إلى العصر المملوكي

يرجع أصل المسجد إلى ما قبل عصر السلطان قايتباي؛ إذ كان الموقع يشغلُه جامع سابق أنشأه محمد بن فضل الله القاضي فخر الدين بالفخر، ناظر الجيش، الذي توفي سنة 732هـ/1332م في أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون في ولايته الثالثة,قد عرف المسجد حينها بجامع القاضي فخر الدين، قبل أن يتولى الصاحب شمس الدين عبد الله المقسي تجديده، ليشتهر بعد ذلك باسم "جامع المقسي".

ومع مرور الزمن، تعرّض امع  قايتباي للخراب وتوقفت إقامة الشعائر الدينية به، إلى أن جاء السلطان الأشرف قايتباي فأعاد إليه الحياة. ففي سنة 886هـ/1481م أصدر أوامره بهدم المبنى المتهالك وإعادة تشييده من جديد على نمط معماري أكثر اتقانًا واتساعًا، مع زيادة في مساحة الجامع، وإنشاء حدائق وعمائر محيطة به، ليتحول المكان إلى مجموعة معمارية متكاملة تعكس رؤية السلطان العمرانية واهتمامه بالمساجد والمدارس الدينية.

واستمر العمل في إنشاء الجامع في عهد قايتباي قرابة عشر سنوات، بين عامي 886هـ/1481م و896هـ/1491م، ليخرج المبنى في صورة مسجد مدرسيّ الطابع، يجمع بين أداء وظيفة العبادة ودور العلم والتدريس، كعادة كثير من منشآت ذلك العصر.

حريق مدمر غير ملامح المسجد

لم يسلم المسجد من تقلبات الزمان؛ ففي سنة 1216هـ/1801م وقع انفجار بمخزن للبارود ملاصق له، ما أدى إلى اندلاع حريق كبير التهم معظم العناصر الخشبية القديمة داخل الجامع، خاصة الأسقف والأبواب وبعض الزخارف الداخلية. وقد ترك هذا الحريق أثرًا واضحًا في شخصية المبنى المعمارية؛ إذ أصبح – مقارنةً ببقية منشآت السلطان قايتباي مثل مجموعته الشهيرة في منطقة الجمالية – أقل مساجده زخرفةً وتفننًا في النقش، بعد أن فقد كثيرًا من جوانبه الجمالية الأصلية.

وبرغم ذلك، ظل المسجد قائمًا بدوره الديني والتاريخي، شامخًا على ضفاف الروضة، يحمل بصمات عصر قايتباي وروح القاهرة المملوكية، حتى مع ما طرأ عليه من ترميمات لاحقة للحفاظ على ما تبقى من معالمه الأصيلة.

تخطيط معماري على نمط المدارس

جاء تصميم مسجد قايتباي بالروضة على نظام تخطيط المدارس الذي شاع في عمارة المماليك، حيث يتوسطه صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات، أكبرها إيوان القبلة الكائن بالجهة الشرقية. ويتقدّم هذا الإيوان محراب حجري بسيط في زخرفته، يعكس ما آل إليه المسجد من تقشّف نسبي في الزخارف، مقارنة بمساجد أخرى مشيدة في العصر نفسه.

ويخدم هذا التخطيط وظيفة المسجد العلمية والعبادية؛ فالإيوانات كانت تستخدم لحلقات الدرس وقراءة القرآن وطلب العلم، بينما يشكّل الصحن فضاءً رحبًا لتوزيع الحركة والإنارة والتهوية الطبيعية، وفق تقاليد العمارة الإسلامية التي أتقنت استثمار الضوء والظل في تشكيل روح المكان.

مدخل رئيسي يحمل اسم السلطان

تتميّز الواجهة الشرقية للمسجد بالمدخل الرئيسي الذي يشكل عنصرًا معماريًا مهمًا في المبنى. وقد شُيّد المدخل بأحجار صفراء وبيضاء في تكوينات متعاقبة تمنحه حيوية بصرية، ويعلوه عقد مدائني ثلاثي يضفي على الواجهة طابعًا مملوكيًا واضحًا.

وعلى جانبي المدخل، كُتبت أسماء السلطان قايتباي وألقابه، في دلالة على عناية السلاطين بتوثيق أسمائهم على منشآتهم، وربط تاريخهم الشخصي بالمشروعات العمرانية التي شيّدوها، خاصة المساجد والمدارس والأسبلة.

مئذنة رشيقة بثلاث دورات

ترتفع مئذنة المسجد على يسار الباب الرئيسي، وهي مبنية من الحجر، وتتألف من ثلاث دورات (طوابق)، وفق الطابع المملوكي الذي يجمع بين الرشاقة والصلابة في آن واحد. وتُعد المئذنة من أبرز عناصر المسجد الباقية التي لا تزال تحتفظ بقدر من جمال التكوين المعماري، إذ تتدرج في الارتفاع مع انتقالها من دورة إلى أخرى، وصولًا إلى قمتها التي كانت منارة للصلاة ونداء الأذان في المنطقة.

قيمة دينية وتاريخية مستمرة

على الرغم من أن مسجد قايتباي بالروضة يُعد من أقل مساجد السلطان قايتباي زخرفة، فإن قيمته التاريخية والمعمارية لا تزال حاضرة بقوة؛ فهو يجسّد مرحلة مهمة من تطور العمارة المملوكية، ويعكس في تخطيطه ووظائفه طبيعة المساجد المدرسية في ذلك العصر.

كما يمثّل المسجد جزءًا من هوية جزيرة الروضة ومعالمها الدينية والأثرية، ويُسهم في رسم صورة متكاملة لآثار مصر القديمة والقاهرة التاريخية على حد سواء، بما يجعله محطة مهمة للباحثين والمهتمين بتاريخ العمارة الإسلامية، فضلًا عن كونه بيتًا من بيوت الله ظل عبر القرون شاهدًا على تعاقب الأجيال وتعظيمهم لشعيرة الصلاة وعمارة المساجد.

تم نسخ الرابط