ما حكم مشاركة الغير في الماشية؟ .. دار الإفتاء توضح
أكدت دار الإفتاء المصرية ماذهب إليه بعض الأئمة والعلماء أن هذه المعاملة جائزة شرعًا، وهذا هو المفتى به؛ حيث يقوم أحد الأشخاص بشراء الماشية ويُعطيها لآخر فيقوم برعايتها، على أن يكون له شيء مما يَنْتُج منها؛ كلَبَنِها أو ما تَلِدُه، ويكون لصاحبها شيء مما تَلِدُ؛ وذلك قياسًا على المساقاة والمزارعة والمضاربة؛ فيكون هذا بماله، وهذا بعمله، وما نتج عن هذا العمل فهو بينهما. وقد جرى عُرْف الناس على هذا النوع من المشاركة حتى شاعت بينهم؛ والعرفُ مُعتَبَرٌ شرعًا.
آراء الفقهاء في حكم مشاركة الغير في الماشية
هذه المعاملة بهذه الصورة محل خلاف بين الفقهاء؛ فالجمهور من الفقهاء يرون أنها غير جائزة، وعلى ذلك الحنفية، والمالكية، والشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة؛ وذلك لأن العامل على الماشية لا يجوز أن يكون أجره ما ينتج منها؛ لعدم علمه بقدر الناتج، وعلى هذا القول فيكون الناتج من الماشية من اللبن وغيره لصاحبها، وللعامل الأجر على عمله إن اتفقا عليه، وإلا فله أجرة المثل.
قال الإمام الكاساني في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”: لو شرط الشريكان في ملك الماشية لأحدهما فضلًا من أولادها وألبانها، لم تجز بالإجماع.
وقال العلامة ابن نجيم في “البحر الرائق شرح كنز الدقائق”: ولو اشتركا ولأحدهما دابة وللآخر إكاف وجوالق على أن يؤجر الدابة والأجر بينهما، فالشركة فاسدة؛ لأنها وقعت على العين، فكانت بمعنى الشركة في العروض، فإن أجر الدابة مع الجوالق والإكاف، فالأجر كله لصاحب الدابة وللدخيل معه أجر مثله بالغًا ما بلغ.
قال الشيخ عليش في “منح الجليل شرح مختصر خليل”: ولو أعطيته الدابة أو السفينة أو الإبل ليعمل عليها فما أصاب بينكما، فلا يجوز ذلك.
وقال الإمام النووي في “الروضة”: دفع بهيمة إليه ليعمل عليها، وما رزق الله تعالى فهو بينهما؛ فالعقد فاسد. ولو قال: تعهد هذه الغنم بشرط أن درها ونسلها بيننا، فباطل أيضًا، لأن النماء لا يحصل بعمله.
قال العلامة المرداوي في “الإنصاف”: لو أخذ ماشية ليقوم عليها برعي وعلف وسقي وحلب وغير ذلك، بجزء من درها ونسلها وصوفها- لم يصح على الصحيح من المذهب. نص عليه، قال في “الفروع”: هذا المذهب، وصححه في “تصحيح المحرر”، وجزم به في “المغني”، و”التلخيص”، و”الشرح”، و”عيون المسائل”، وغيرهم ذكروه في باب الإجارة، وله أجرته.
واستدل الجمهور لعدم جواز هذه المعاملة بأن فيها غبنًا بينًا، وجهالة فاحشة؛ فالعوض مجهول، ولا يُدرى أيوجد أم لا.
مذهب بعض فقهاء الحنابلة في هذه المسألة
بينما يرى الإمام أحمد -في رواية- جواز هذه المعاملة، وهو اختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم، واستدلوا على الجواز بأن الأصل هو الإباحة، ولا يوجد دليل للمنع، وأيضًا بالقياس على المساقاة والمزارعة.
قال العلامة المرداوي في “الإنصاف” بعد أن ذكر المذهب في المسألة: وعنه: يصح. اختاره ابن عبدوس في “تذكرته”، والشيخ تقي الدين رحمه الله، وقدمه في “الفائق”، و”الرعاية الكبرى”، وقال: نص عليه، ذكره في آخر المضاربة.
وقال الشيخ ابن القيم في “إعلام الموقعين”: تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره؛ بأن يدفع إليه أرضه ويقول: اغرسها من الأشجار كذا وكذا، والغرس بيننا نصفان.. وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها، والدر والنسل بينهما.. فكل ذلك شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة، ولا معنى صحيح يوجب فسادها.
وأجاب الشيخ ابن القيم على منع الجمهور لهذه المعاملة في “إعلام الموقعين”: بأنهم ظنوا ذلك كله من باب الإجارة، فالعوض مجهول فيفسد، ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها، والمضاربة للإجماع دون ما عدا ذلك، ومنهم من خص الجواز بالمضاربة، ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان، وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الأصل كالدر والنسل. والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها؛ فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك: هذا بماله، وهذا بعمله، وما رزق الله فهو بينهما. وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة.
ثم نقل كلام شيخه ابن تيمية في ذلك فقال في “إعلام الموقعين”: هذه المشاركات أحلّ من الإجارة. قال: لأن المستأجر يدفع ماله، وقد يحصل له مقصوده، وقد لا يحصل، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر؛ إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة؛ فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء، إن رزق الله الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا في الحرمان، وهذا غاية العدل؛ فلا تأتي الشريعة بحل الإجارة وتحريم هذه المشاركات. وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام، فضارب أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم لم ينسخه، ولم ينه عنه، ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون، وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره. ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما قال الليث بن سعد: إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز، ولو لم تأت هذه النصوص والآثار؛ فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، والله ورسوله لم يحرم شيئًا من ذلك.
المختار للفتوى في هذه المسألة
العادة تؤيد هذه الرواية المنقولة عن الإمام أحمد؛ حيث جرى عرف الناس على هذه المشاركة حتى شاعت بينهم؛ وقد جرى اعتبار العرف من مصادر التشريع؛ لقوله تعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُر بِالعُرْفِ﴾، وفي الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ». أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي في «مسنديهما»، وهذا القول هو ما نُفتي به في هذه المسألة.