من «اليتيمة لـ الكريمة».. سر الليلة الختامية مولد الإمام الحسين |خاص

اختتمت الطرق الصوفية احتفال مولد الإمام الحسين، وما إن تنطفئ أنوار "الليلة الكبيرة" في مولد سيدنا الحسين رضي الله عنه، حتى تبدأ القاهرة القديمة تستعد لليلةٍ أخرى، أكثر سكوناً وعمقاً ودهشة. إنها "الليلة اليتيمة"، التي غدت في الوجدان الشعبي الصوفي "الليلة الكريمة"؛ ليلة الأسرار والأنوار التي تختم بها مصر احتفالها بأحد أعظم موالدها، مولد سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام.
الليلة اليتيمة في مولد الإمام الحسين
وقال الباحث في التصوف مصطفى زايد في تصريحات خاصة لـ «نيوز رووم»: الليلة اليتيمة ليست مجرد امتداد لاحتفالات المولد، بل هي خلاصة الروحانية التي تتجلى بعد صخب الأيام السابقة. في الليلة الكبيرة، تتزين الميادين والسرادقات وتزدحم الطرقات بجموع المحبين، أما حين تنقضي تلك الليلة ويغادر الناس، يبقى الصفوة من أهل الذكر والوجد والصفاء. هؤلاء الذين يصفهم الصوفية بأنهم "خواص الخواص"، يجتمعون في سكون القاهرة العتيقة ليحيوا الليلة التالية، التي سُميت منذ القدم بـ"الليلة اليتيمة"، لأنها تنفرد بخلوها من الزحام، فيكون أهلها كـ"اليتيم" الذي انفرد بعد جماعته.
وتابع: يروي المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" أن الصوفية اعتادوا بعد انفضاض الموالد الكبرى أن يقيموا ليلة ختام يسمونها "اليتيمة"، لانفراد أهل الخصوص فيها بعد العامة، ولأنها تُقام في جوٍّ من السكون والخشوع بعد الصخب. ويؤكد هذا التفسير ما جاء في اللغة من أن "اليُتم" هو الانفراد، فكما يُقال للإنسان يتيماً لانفراده بعد فقد أبيه، كذلك سُميت هذه الليلة يتيمة لانفرادها عن غيرها من الليالي بالصفاء والخلوة.
ومع مرور الزمن، بدأ بعض مشايخ الطرق الصوفية في القاهرة يُبدّلون الاسم من "الليلة اليتيمة" إلى "الليلة الكريمة"، معتبرين أن وصفها باليُتم لا يليق بليلةٍ تُفيض بالكرم الإلهي والنفحات الربانية. فالليلة التي تُختتم بها أيام المولد الحُسيني ليست يتيمة بالمعنى الحزين، بل عامرة بالعطاء الروحي والأنوار، فصار الناس يصفونها بـ"الليلة الكريمة" لما يرونه فيها من فيضٍ وبركةٍ وكرمٍ روحي ظاهرٍ لكل من يشهدها من المريدين والمحبين.
وأضاف: يرجع أصل الاحتفال بهذه الليلة إلى العصر الفاطمي في مصر، حين كانت الدولة الفاطمية تُقيم الموالد الكبرى لجميع آل البيت، وفي مقدمتهم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والسيدة فاطمة الزهراء، والإمام علي، والإمام الحسين، وكان يُخصص لكل مناسبة عدة ليالٍ من الذكر والإنشاد والابتهال. وبعد زوال الدولة الفاطمية، استمرت هذه العادات عبر القرون، لكنها تحولت من طابعها الرسمي إلى طابعٍ شعبيٍ وصوفيٍ خالص، فصارت الطرق الصوفية والمحبون يجتمعون في تلك الليالي دون رعاية سلطانية، بل بدافع المحبة الخالصة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي مولد الإمام الحسين خصوصاً، ظل التقليد قائماً منذ العصور الأولى، إذ كان الاحتفال يُقام في الخامس عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهو التاريخ الذي كان معتمداً في القرون الماضية بحسب ما أورده المؤرخون في سجلات الموالد القديمة. ومع تطور الأزمنة وتغيّر التقاويم وارتباط الموالد بالمواسم الزراعية وأحوال الناس، انتقل موعد الاحتفال تدريجياً إلى يوم الثلاثاء الأخير من شهر ربيع الثاني، وهو الموعد الذي استقر عليه الصوفية ومحبّو الحسين في القاهرة حتى يومنا هذا، ليصبح من أكبر الموالد التي تشهدها مصر سنوياً.
الليلة الكريمة لمولد الإمام الحسين
ويرجع هذا التحوّل إلى رغبة مشايخ الطرق الصوفية في إبعاد مولد الإمام الحسين عن احتفالات المولد النبوي الشريف، حتى لا يتقاطع الاحتفالان، ويُمنح مولد الحسين خصوصيته الروحية المنفردة، فيكون له زمانه الخاص ومجاله المميز بالذكر والأنوار، تكريماً لمقامه الشريف ومكانته في قلوب المصريين. وفي هذا الموعد تُقام “الليلة الكبيرة” مساء الإثنين الذي يسبق الثلاثاء الأخير من ربيع الثاني، تليها في الليلة التالية “الليلة الكريمة” التي يختم بها المريدون والمحبون احتفالهم بالحسين، في جوّ تغمره السكينة والمدائح والأنوار الحُسينية.
هكذا تحوّلت "الليلة اليتيمة" إلى "الليلة الكريمة"، فصارت رمزاً للصفاء بعد الضجيج، وللذكر بعد الفرح، وللخلوة بعد الحشد. ليلة تُغلق بها القاهرة صفحة من الفرح المقدس لتفتح باباً جديداً للسكينة الروحية. وهي في الوعي الجمعي المصري أكثر من مجرد احتفال، إنها ليلة الوداع، ليلة الحنين، وليلة اللقاء المتجدد مع روح الحسين في كل عام.
وشدد على أن الليلة الكريمة هي آخر ما تبقى من الطقوس التي حملت روح العصر الفاطمي، وظلت حيّة في الوجدان المصري بفضل الطرق الصوفية التي حفظت لهذا التراث روحه ومعناه. وما زال الحسين عليه السلام يجمع حوله في تلك الليلة كما في كل عام المحبين من كل صوب، يودعونه بالمدائح والدموع، ليعودوا في العام القادم في الموعد نفسه، في الليلة نفسها، حيث “الليلة الكريمة” التي لا تُنسى.