لم يكن القرار الصادر عن الرئيس السوري أحمد الشرع بإلغاء الإجازة الرسمية في ذكرى السادس من أكتوبر، وعيد الشهداء، مجرد مرسوم إداري عابر في سجل التشريعات السورية، بل كان إعلانًا رمزيًا صادمًا عن مشروع كامل يراد له أن يُغسل فيه التاريخ، وتُعاد فيه صياغة الذاكرة الجمعية للأمة على مقاس أجندة وُلدت في الغرف المظلمة خارج حدود دمشق.
قرار الشرع، في جوهره، ليس نسيانًا عرضيًا لتاريخ عسكري، بل محوٌ متعمد للحرب الوحيدة التي خاضتها سوريا ضد إسرائيل، وحققت فيها تقدمًا حقيقيًا على جبهة الجولان، قبل أن تتقاطع الحسابات السياسية وتوقف زحف النصر في منتصف الطريق.
إنه قرار جاء ليكسر آخر خيوط الرباط بين ذاكرة السوريين ومجدهم العسكري، بين تضحيات الشهداء ومَن تبقّى من الأحياء الذين ما زالوا يرفعون صور حرب أكتوبر كوثيقة هويةٍ وطنيةٍ في وجه زمنٍ يتآكل فيه المعنى.
اللافت أن أحمد الشرع لم يأتِ من رحم المؤسسة الوطنية أو من قلب المعارك، بل خرج من ظلال السجون ومعسكرات الإرهاب، بعد أن كانت واشنطن قد رصدت عشرة ملايين دولار للقبض عليه، ليعود بعدها إلى المشهد رئيسًا للجمهورية في تسويةٍ تثير من الأسئلة أكثر مما تمنح من الإجابات.
كيف تحول المطلوب دوليًا إلى رجل دولة؟ وكيف غُسلت سيرته من تهم التطرف لتُطلى بلون “الإنقاذ الوطني”؟ ومن الذي وضعه على رأس السلطة في لحظة فارقة كهذه؟
الجواب يبدو جليًا اليوم أكثر من أي وقت مضى: الشرع لم يُستقدَم ليحكم، بل ليُنفّذ.
لم يأت ليقود سوريا، بل ليعيد رسمها وفق خرائط الآخرين.
إنه الوجه الجديد لمعادلة قديمة ؛حين يعجزون عن احتلال الأرض بالقوة، يحتلون الذاكرة بالتشريع.
فمنذ أن جلس الرجل على مقعد الحكم، لم تُطلق طلقة واحدة في اتجاه العدو، بينما صارت سماء سوريا ملعبًا لطائرات إسرائيل، تجوبها كما تشاء وتضرب من تشاء، حتى صارت السيادة خبرًا في النشرات لا في الواقع.
يتحدث الشرع عن “السلام الداخلي”، بينما تُفرض حمايةٌ إسرائيلية على الدروز، ويُمنع أي حديث عن الجولان المحتلة، وكأنها صارت واقعًا مفروضًا لا يقبل التفاوض.
إن إلغاء عيد الشهداء ليس عبثًا بالتقويم، بل عبثٌ بالوجدان.
وإلغاء ذكرى أكتوبر ليس تجاهلًا لماضٍ عسكري، بل طمس متعمّد لآخر رموز الكرامة الوطنية المشتركة بين سوريا ومصر.
ففي تلك الحرب، حين كانت الجبهة الشمالية السورية تتعرض لضغطٍ هائل، كانت مصر — بقرار استراتيجي نادر — تُطوّر الهجوم في سيناء لتخفيف العبء عن رفاق السلاح في الجولان.
دماء المصريين والسوريين امتزجت هناك، على تراب واحد وتحت راية واحدة، قبل أن يأتي الشرع ليقطع ذلك الخيط التاريخي بمرسوم بارد لا يعرف حرارة الدم.
إن من يلغى ذكرى النصر، ويغيب عيد الشهداء، لا يُلغى يومًا من التقويم فحسب، بل يلغى فكرة الوطن نفسها.
فالأوطان لا تُبنى بالخرائط، بل تُبنى بالذاكرة؛ ومن يسرق ذاكرة الشعوب يسرق مستقبلها.
اليوم بات المشهد واضحًا ..أحمد الشرع لم يأتِ إلى القصر ليحكم سوريا، بل ليُعيدها إلى نقطةٍ ما قبل الحرب، حين كانت الأرض مفتوحةً للنفوذ، والسماء بلا كرامة، والحدود بلا معنى.
لقد بدأ مشروعه بإلغاء العيد، وسينتهي — إن لم تنتبه الأمة — بإلغاء العَلم.