ما حكم إهمال بعض الآباء في الرعاية الصحية لأبنائهم؟ .. الإفتاء توضح

أكدت دار الإفتاء أن العناية بصحة الأبناء واجب شرعي على الوالدين أو من يقوم مقامهما في رعايتهم، ولا يجوز التفريط أو التهاون في هذا الجانب بأي صورة. ومن ذلك الالتزام بالتطعيمات التي تقررها الجهات الصحية المختصة، واتباع التعليمات والإرشادات الطبية الصادرة عن أهل الخبرة. وقد قرر الفقهاء أن الوقاية من الأمراض واجبة على من يُخشى عليه الإصابة بها، حفاظًا على النفس التي أمر الشرع بحمايتها، وصونًا للأبدان من العلل، وحمايةً للمجتمع من تبعات انتشار الأمراض وتكاليف علاجها وآثارها
حفظ النفس مقصد شرعي
جعل الإسلام صيانة النفس البشرية مقصدًا عظيمًا من مقاصده الكلية، فجاءت الشريعة لحماية الأرواح وصون الأبدان من كل ما يهددها. ومن عظمة التشريع الإسلامي أنه لم يكتفِ بإقرار حق الإنسان في الحياة وسلامة بدنه، بل ارتقى بهذا الحق إلى مرتبة الواجب، فأوجب على المسلم أن يتخذ الأسباب التي تحفظ حياته وتدفع عنه الضرر. وهذا الواجب يكون على الشخص نفسه إن كان قادرًا، أما إن كان قاصرًا أو فاقد الأهلية، فإن المسؤولية تنتقل إلى من يتولى أمره، وفي مقدمتهم الوالدان. وتشمل هذه الرعاية جميع جوانب الحياة، وعلى رأسها الرعاية الصحية، لأن الطفل لا يميز ما ينفعه أو يضره، فجعل الله رعايته وحفظه منوطة بوالديه.
وقد أشار الإمام أبو زهرة في تفسيره إلى قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ [الحج: 5] مبينًا أن الإنسان يولد ضعيفًا عاجزًا عن الاستقلال بنفسه، فيتولى والداه أمر تربيته ورعايته. ومن أعظم ما يُرعى به الطفل: صحته وعافيته، إذ تُعد الصحة من أجلّ نعم الله، كما قال ابن القيم: “العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق، فوجب على من وُفق أن يحفظها ويصونها مما يفسدها”.
الوقاية والعلاج في ميزان الشرع
الأمراض لا تُدفع إلا بوسيلتين: الوقاية أو العلاج. والتطعيمات التي تقدمها الجهات الطبية المختصة صورة من صور العلاج الوقائي الذي جاءت به الشريعة، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ» (رواه أحمد).
والوقاية مقدمة على العلاج، لأنها أيسر وأقل تكلفة، وتحمي الإنسان والمجتمع من تبعات المرض. وقد أشار الإمام الشاطبي إلى أن الشرع أذن بدفع الأضرار قبل وقوعها، وعدَّ ذلك من مقاصد التيسير وحفظ مصالح العباد. ولذا قيل: “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، فالوقاية تحفظ الجسد من البلاء قبل نزوله، أما العلاج فلا يكون إلا بعد وقوعه.
وقد أكد القرآن هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]. كما جاءت السنة ببيان وسائل الوقاية؛ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ» (متفق عليه). وكذلك نهى عن مخالطة أهل العدوى بقوله: «لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» (متفق عليه).
مسؤولية الآباء في تحصين أبنائهم
إذا أثبتت الجهات الطبية أن هناك لقاحًا أو تطعيمًا يقي من مرض خطير، وجب على الآباء المبادرة به حماية لأبنائهم؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد، وما يؤدي إلى حفظ النفس يصبح واجبًا شرعًا. وقد قرر القرافي أن الوسيلة إلى الواجب واجبة، كما قرر العز بن عبد السلام أن الوسائل تتبع المقاصد في حكمها.
وبناءً على ذلك، فإن تطعيم الأطفال ضد الأمراض المعدية واجب شرعي، ولا يجوز التفريط فيه أو التهاون به؛ لأن تركه يُعرض حياة الأبناء للخطر ويضيّع حقهم في الحماية. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» (رواه النسائي).
وجوب الالتزام بالتعليمات الصحية
ومن تمام هذا الواجب الشرعي الالتزام بالتعليمات والإرشادات الصادرة عن الجهات الصحية المختصة، فهم أهل الخبرة والمعرفة، وقد أمر الله بسؤال أهل الذكر في قوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]. وأهل الذكر هم أهل الاختصاص في كل مجال، فيُسأل الأطباء والعلماء فيما يتعلق بشؤون الطب والصحة.
وقد جاء في الحديث: «أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» (رواه البيهقي). وعليه؛ فاتباع إرشادات الأطباء والجهات المختصة واجب شرعي، لأنه الوسيلة لحفظ النفوس ومنع انتشار الأوبئة