عاجل

لم يكن مثيراً أن يقول بنيامين نتنياهو ما قاله من تصريحات تحمل شبهة التحريض وتكشف عن طبيعة خطابه السياسى بقدر ما كان مدهشاً أن يطلقها عبر قناة مغمورة على تطبيق تيليجرام تحمل اسم “أبو على إكسبرس”. لقد كان جوهر الخبر هذه المرة هو الوسيلة أكثر من المضمون، فالدهشة لم تأتِ من مضمون الكلمات بقدر ما جاءت من منصة النشر التي غدت فجأة مصدرًا تتلقف منه كبريات الوكالات والصحف العالمية أخبارها وتعيد إنتاجها. وكأن العالم بأسره قد أقرّ بواقع جديد يعيد رسم حدود السلطة الرابعة، واقع لم تعد فيه القنوات الكبرى ولا الصحف واسعة الانتشار وحدها صاحبة اليد الطولى في صناعة الخبر، بل بات تطبيق مجهول أو قناة فردية قادرة على أن تسبق الجميع وتفرض أجندتها على مائدة الإعلام التقليدي.
•••
هذه اللحظة لا تخص نتنياهو وحده، بل هي عنوان لتحول أوسع يطال صلب العلاقة بين السياسي والجمهور. فها نحن نرى رؤساء دول وحكومات يملكون قنواتهم الخاصة على يوتيوب، يبثون عبرها رسائلهم مباشرة دون وساطة، ووزراء يفضلون الجلوس أمام صانع محتوى شاب في برنامج بودكاست لا يتجاوز ميكروفوناً متواضعاً وعدسة هاتف، على أن يقصدوا استوديوهات القنوات الرسمية المهيبة. بل إن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد تنبّه مبكراً إلى هذا التحول، حين اختار أن يظهر في لقاءات مع نجوم يوتيوب مخاطباً جمهورهم العريض بلسانهم البسيط، مدركاً أن السياسة في عصر المنصات لا تمر عبر القاعات الكبرى وحدها، بل عبر شاشات صغيرة في يد كل فرد.
•••
السؤال هنا يتجاوز الظاهرة إلى معناها ؛لماذا يلجأ المسؤولون إلى هذا الإعلام البديل؟ أول الأسباب أن الأجيال الجديدة هجرت الشاشات التقليدية لتستقر في عالم رقمي لا يعترف بالمواعيد ولا بالبرامج الثابتة. هناك يتشكل الرأى في لحظة، وهناك يصنع “الترند” الذي يجرّ وراءه آلاف المقالات والنشرات. ثانيها أن هذه المنصات تمنح السياسي حرية التحدث بلا مقص رقيب ولا أسئلة قد تقطع إيقاع رسالته، بل تتيح له أن يطل مباشرة على جمهوره، عفوياً كما يشاء، موجهاً كلماته بغير وسيط. وثالثها أن التكلفة منخفضة والفاعلية عالية، إذ يكفي بث قصير على تيليجرام أو مقطع على يوتيوب لينتشر في ساعات انتشاراً يتجاوز ما تحققه حملات إعلامية مدفوعة.

لكن وراء هذه الدوافع تكمن دلالات أعمق لا يجوز إغفالها، فالمشهد يشي بتآكل الهيبة التاريخية للإعلام التقليدي. المؤسسات العريقة التي كانت تتباهى بأنها صاحبة الكلمة الأولى في تشكيل الرأي العام صارت تلجأ هي نفسها إلى متابعة قنوات فردية لتستقي منها الخبر. لقد تبدّل تعريف السلطة الرابعة، من مؤسسات تحرس المجال العام وتصوغ أجندته، إلى فضاء متشظٍ تتوزع فيه القوة بين ملايين الأفراد كل يحمل هاتفاً ويمتلك نافذة على العالم. لم يعد الخبر يُولد في غرفة الأخبار بل قد يولد في بث حي عابر، ثم تجري وراءه وسائل الإعلام الكبرى لتعيد صوغه وتلحق به.

وإذا كان هذا هو واقع اليوم، فإن الغد يبدو أشد تعقيداً. فالإعلام الجديد لا يزحف ليزيح التقليدي إزاحة كاملة، بل ليُجبره على التكيف والتجدد. لن يموت التلفزيون ولن تُطوى الصحف العريقة، لكن بقاءها مشروط بقدرتها على التخفف من جمودها والاقتراب من إيقاع المنصات: سرعة، تفاعلية، لغة أبسط وأكثر قرباً من الناس. في المقابل سيبقى الإعلام الرقمي في حاجة إلى معيار المصداقية الذي لا يستطيع الفرد أن يحتكره مهما بلغت شعبيته، معيار لا يزال الإعلام المؤسسي قادراً على تقديمه إن أراد أن يستعيد دوره.

إن ما جرى مع نتنياهو ليس مجرد واقعة عابرة، بل علامة على زمن يتغير. ففي عالم اليوم لم يعد الخبر هو ما يُقال فحسب، بل صار أيضاً في أين وكيف قيل. وبينما يتراجع دور المنابر الرسمية أمام صعود قنوات مجهولة أو حسابات فردية، يعاد تعريف جوهر الإعلام ذاته . من سلطة كانت حكرًا على المؤسسات إلى قوة موزعة بين الجميع. إنها لحظة انتقالية كبرى، تفرض علينا أن ندرك أن المشهد الإعلامي لم يعد كما كان، وأن المستقبل لن يرحم من يظل سجينًا لزمن مضى.

تم نسخ الرابط