قال قيس بن الملوح فى حي ليلاه " مررت على الديار ديار ليلى " وفى هذه الشطرة من بيته الشعرى باح بالحب الذى جعله يستهوى النظر الى المكان الذى تعيش فيه ليلى حبيبته واستكمل وقال " وليس عشق الديار ولكن حب ساكنيها " وهنا يتجلى الشعور الكبير وهو ان حب مكان الحبيب جزء من هذا الحب . فالديار تبوح بالحب مثلها مثل قلب المحب وهى تشارك المحب ولعه وولهه بحبيبه ، ويزداد هذا الوله ويتحول الى نيران اذا ماعاد المحب الى الدار وقد أصبحت اطلالا يطوف حولها المكلوم من الفقدان ويتذكر كل ركن ومكان عاش فيه مع من أحبه وصنعا معا عمرا وذكريات وذاكرة . الديار ليست بساكنيها تعيش وتستمر ولكنها تستمد البقاء من محبيها الذين لايزالون على عهدهم باصحاب الديار مهما فرق بينهم القدر أو طوت ذاكرة الزمان القاسية صفحاتهم معها . الاديب العالمى ارنست همنجواي قال عن بيت حبيبته التى لم تستكمل قصة حبهما وافترقا قال "أنه بمثابة قلب استمد منه نبض حياتى كلما ذهبت اليه وحدثته عما عشته وعايشته ". وتولستوى ايضا قال انه عندما يريد ان يستعيد مشاعره الطيبة وعنفوان قلبه يعود الى أول مكان عرف فيه الحب الحقيقى ويستحضر ملامح محبوبته الاولى وربما الاخيرة ويعيد على نفسه نصائحها وكلامها الجميل له ووقوفها الابدى بجواره بدون اى هدف ولاغرض سوى ان تراه سعيدا قويا على مواجهة الازمات ، يعود الى أمه ويسترجع عمره معها الذى لم يشبع منه ولامنها . ساكن الديار ليس بالشرط أن يكون بشرا فقد يكون حيوانا أو طائرا فقد قرأنا عن كلاب وقطط لم تبرح مكان صاحبها بعد موته وماتت كمدا وحزنا وهى تبحث عنه بين ارجاء المكان الذى عاشوا فيه مع صاحب وساكن الدار ، بل قرأنا أيضا عن طيور تقف على نافذة بيوت ساكنى الدور وتنقر فى هذه الشبابيك والنوافذ سائلة عن اصحاب الدار وساكنيها الذين غادروها الى دار الخلد . ساكن الدار الذى رحل تاركا وراءه أهل الدنيا يتعذبون بالذكريات ويتألمون من الفراق ذلك الساكن هو الفائز لانه لم يعش عيشة الفاقد الحزين الذى اصبح حاله يرثى له فهو بين نارين نار الفقد واثارها ونار الواقع ومحاولته المستميتة دوما على التعايش والرضا بالواقع المؤلم بان هذه الدور اصبحت خاوية عليه وان عالمه اصبح عالم بغيض وان مخرجه الوحيد هو فى استرجاع الذكريات مع كل ركن فى الدار واستحضار من كانوا فيها من ذاكرته يحدثهم ويستمع اليهم . فى الدول المتقدمة اول شيىء يفعله من فقد عزيزا ان يغادر مكان السكن ويبتعد بقدر مايمكن عن ساكن الدار الراحل ويبدأ حياة جديدة يحرص فيها ان يدمر الماضى تدميرا لانه مهما كان عذبا وجميلا فانه ماضى والبقاء فيه مضيعة للوقت واهدار للعمر . فليفعل الغرب مايفعلون ولكننا شعب وفى لماضيه حريصا على البقاء فيه لاننا دوما نردد "اللى مالوش ماضى مالوش حاضر ولا هيكون ليه مستقبل ".. ايا كانت هذه الكلمات مفيدة أو ضارة متحضرة او متخلفه الا ان الدار وساكينيها ومن غادروها نسيج واحد مهما اقتطع منه الا ان الحنين سيظل يسرى حتى ينضب العمر ويلاقى كل حبيبه حبيبه ويكتمل لقاء الاحبة فى حياة أخرى ودار اخرى ابدية تنهى عذابات فراق ساكن الدار ومحبيه ومريديه …