كيف عالج الصوفية الإدمان؟.. رؤية روحية وعملية من المخطوطات الموثقة (خاص)

في تاريخ التصوف الإسلامي، لم يُنظر إلى الإدمان وخاصة إدمان الخمر على أنه مجرد انحراف سلوكي، بل عرّفه كبار الشيوخ بأنه مرض مركّب يجمع بين الأبعاد الجسدية والنفسية والروحية.
وعبّر ابن عطاء الله السكندري عن هذه الرؤية بقوله في الحكم العطائية (تحقيق عبد الحليم محمود): "من أدمن شيئًا صار عبدًا له". هذا الفهم العميق دفع المتصوفة إلى تطوير برامج علاجية متكاملة، بعضها موثق في المخطوطات الصوفية النادرة، تجمع بين التزكية الروحية والتأهيل النفسي والتطهير البدني.
في قوت القلوب لأبي طالب المكي (ت 386هـ، نسخة دار الكتب المصرية برقم 254 تصوف، جـ2/ص115)، نجد وصفًا دقيقًا لبرنامج علاجي مدته أربعون يومًا، يبدأ بالتخلي عن العادات الضارة عبر الوضوء خمس مرات يوميًا، وتلاوة سورة الفاتحة سبعين مرة، ثم المداومة على الذكر الخفي "لا إله إلا الله" ألف مرة يوميًا.
إعادة برمجة الذاكرة الروحية للمريد
وقال الباحث الصوفي مصطفى زايد لنيوز رووم أن هذا البرنامج لم يكن مجرد تلاوات، بل كان يهدف إلى إعادة برمجة الذاكرة الروحية للمريد، وإشغال قلبه ولسانه عن مثيرات الإدمان.
أما الرسالة القشيرية (ص245، طبعة دار الجيل) فقد نقلت حالات شفاء من إدمان الخمر من خلال حضور مجالس السماع الصوفي، حيث تُرتَّل الأناشيد ذات المضرب الروحي الخالي من المحرمات. هذه الطريقة، رغم بساطتها الظاهرية، كانت مبنية على مبدأ "تحويل اللذة"؛ أي استبدال النشوة الحسية بنشوة وجدانية ناتجة عن سماع الكلمات المقدسة.
الخلوة العلاجية
الغزالي في إحياء علوم الدين (جـ3/ص89، طبعة دار المنهاج) اقترح علاجًا أكثر انضباطًا، يعتمد على الخلوة العلاجية لمدة أربعين يومًا في زاوية معزولة، يتخللها صوم النهار، وقيام الليل بالقرآن، والمشي ساعتين يوميًا كرياضة بدنية. وقد شدد على أن هذه الخلوة ليست انقطاعًا عن المجتمع بقدر ما هي إعادة بناء للنفس في بيئة محمية.
وصفة علاجية
وقال"زايد":من الناحية الجسدية، يذكر طب القلوب لابن طيفور البسطامي وصفة علاجية تعتمد على ملعقة عسل صباحًا، وحبة سوداء مطحونة بالماء، وتدليك الأطراف بزيت الزيتون. هذه المكونات لم تكن اختيارية، بل مدعومة بتجربة طويلة في طب الأعشاب، وكانت تُستخدم كمحفز طبيعي لإعادة التوازن الحيوي للجسم.
على الصعيد النفسي، يورد الغزالي في منهاج العابدين خطوات عملية لتعويض وقت التعاطي، تبدأ بإحلال الذكر مكانه، ثم مصاحبة الصالحين، والتدريب على كظم الغيظ عبر الوضوء والصمت. بينما في البعد الروحي، جاءت وصية ابن عطاء الله في الحكم العطائية: "إذا أردت أن يذهب عنك شهوة فاذكر الموت"، وهو تذكير صادم للنفس يدفعها لإعادة ترتيب أولوياتها.
قصص ملهمة
وأوضح “زايد” أن التاريخ الصوفي حفظ لنا أيضًا قصصًا ملهمة، مثل ما ورد في نفحات الأنس للجامي عن أمير أموي تاب عن الخمر بملازمة الحسن البصري، والاعتكاف في مسجد دمشق، وخدمة الفقراء ككفارة. وفي شذرات الذهب لابن العماد (جـ4/ص55، طبعة دار ابن كثير) نجد أن أبي مدين الغوث (ت 594هـ) كان يعالج نحو عشرين مدمنًا سنويًا بنظام يجمع بين العمل اليدوي في الزراعة، والحجامة الشهرية، وقراءة آية الكرسي سبعين مرة يوميًا.
المتصوفة كانوا واضحين في ضوابطهم الشرعية؛ فالغزالي حذر في إحياء علوم الدين من أي استخدام للسحر أو الطلاسم أو الخرافات، بينما أكد الهجويري في كشف المحجوب على أن السماع العلاجي يجب أن يكون بآلات مباحة، ودون اختلاط محرم، وبنية العلاج لا اللهو.
أضاف:اليوم، يمكن أن تلهم هذه التجارب مراكز التأهيل الحديثة لدمج الذكر والتزكية في برامج العلاج النفسي، والاستفادة من الوصفات الطبيعية التي أثبت العلم فعاليتها، وإحياء مبدأ "الصحبة الصالحة" كدرع مجتمعي للوقاية من الانتكاس. إن منهج الصوفية في علاج الإدمان ليس مجرد تراث، بل نموذج متكامل يجمع بين طب القلوب وطب الأبدان، وبين الحكمة الروحية والانضباط العملي.