بينما تتهاوي الثقة بالحكومة وتتراجع شعبيتها، ترتفع شعبية وزارة الداخلية وتعلو كطائر الفينيق العائد من رماد الأزمة، لتُحلق فى سماء الرضا الشعبي، وتحتل مساحة واسعة من التقدير العام لأول مرة منذ عقود .
ولفهم الأسباب، لا بد من الرجوع إلى ما قبل اندلاع أحداث 25 يناير عام 2011، حين كانت «الداخلية» بمثابة الشيطان الأكبر الذي أُلقي عليه كل الحجارة، فكانت الهدف الأول للتشويه والتخريب والإستهداف، ودفع المجتمع كله ثمن ذلك، حتى فطن الجميع إلى فداحة ماحدث، وعمق الجُرح الذي خلّفته الأحداث عبر محاولة تفكيك مؤسسة حفظ الأمن والاستقرار في البلاد.
ومن الدروس التى حفرت أثرها فى ذاكرة الشرطة، أن تنأي بنفسها عن تَحمُّل تبعات فشل الوزارات الأخري، كما كانت تفعل سابقًا، وأن تحصر جهودها فى أداء واجبها الدستورى والقانوني والمجتمعي دون أن تكون شماعة لتعثر وتردي الآخرين.
وقد نجحت بالفعل فى صياغة معجزة واقعية -في بضع سنين-بعد التعافي سريعا من أحداث يناير ، تمثلت فى تثبيت دعائم الأمن فى دولة تعد قلب الشرق الأوسط، وأكثر مناطق العالم اضطرابًا.
لكن التخطي والنجاح لم يكن أمنيًا فحسب، بل امتد إلى أبعاد إنسانية ومجتمعية شاسعة، حيث توسع الدور الاجتماعي للشرطة دون أن تنزلق إلى تحمل أخطاء الآخرين، وصارت تؤدي واجبها بإحتراف وإنضباط شديد، يجري في مجراه بثبات، ويروي أرضًا كانت عطشى للثقة وعودة الهيبة وسيادة القانون دون تجاوز أو خروقات.
ومؤخرًا، تجلى هذا الأداء في مشاهد ملموسة، حيث باتت أجهزة وقطاعات الشرطة تتفاعل لحظيًا مع أي تجاوز يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، فتجد المواطن يوثق مخالفة بسيطة، كسيارة تسير عكس الاتجاه، أو سلوك بلطجى، ثم يفاجأ بإعلان رسمي يُظهر فيه الجاني وهو يُقدم للعدالة، وكأن صوت الناس صار جرسًا يُقرع فى قاعة اتخاذ القرار بالوزارة.
ومن المشاهد التى نالت أعلي درجات الرضا الشعبي، حملات الضبط القانونية ضد «صُناع المحتوى المسيء»، من يوتيوبرز وتيك توكرز وبلوجرز، ممن حادوا عن جادة الذوق العام، وقدموا ما يخدش الحياء ويشوه صورة المصريين، وما إن أعلنت أجهزة الأمن عن تحركها، حتى توحدت مشاعر الأصوات الراقية والمُحترمة وبصوت عالٍ تؤيد وتُعضد وتُشجع هذه الخطوه التي راقت للغالبية العظمي من المجتمع .
كانت البداية الأسبوع الماضي عندما تم القبض علي سيدة من مقدمي المحتوى الفاضح وإيداعها السجن لقضاء العقوبة التي كانت قد صدرت بحكم محكمة .. كانت الواقعة بمثابة إعلان عودة الإنضباط علي شبكات التواصل الإجتماعي المُنفلتة، وشرارة استعادة الاحترام، حتى بدت شعبية «أجهزة الأمن» تعانق السماء، فى مشهد نادرا ما يتكرر لم تعرفه الدولة منذ سنين طويلة.
.. ولم يكن الدور الاجتماعي لوزارة الداخلية غائبًا، فـ«منافذ أمان» تمد يدها بالسلع الجيدة بأسعار تراعي البسطاء، والخدمات تتطور وتُرقمن، ومراكز الخدمة تنتشر في المولات التجارية، لتعيد الثقة وتقرب المسافات بين المواطن والدولة .
بعد أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي مسئولية الحكم عام 2014، كانت الشرطة خارجة للتّو من معركة كسر العظام، دفعت فيها أثمانًا باهظة فى مواجهة تنظيم الإخوان المُسلح وأجنحتة الإرهابية من التيارات المتطرفة، وقد تعرضت لأعنف موجات التدمير، لكن من بقي من رجالها الأوفياء آثروا حمل الراية بدل الانكسار، وأقسموا على أن تظل مؤسسة الأمن الأقدم والأكبر في الشرق الأوسط قلعةً لا تفتح إلا لأمن الوطن.
فانتفضوا من تحت أنقاض المؤامرة، ونفضوا عن أنفسهم غبار اليأس، ووقفوا فى وجه الإرهاب الأسود، مدعومين بسواعد القوات المسلحة ، يقدمون الدماء قرابين للحياة الآمنة، وآخرها كان قبل أسبوعين عند الكشف عن خلية مُسلحة تابعة لحركة «حسم الإخوانية»، لتنقش الوزارة أسماء رجالها في ملف مكافحة الإرهاب والتطرف - كالعادة- على جدران التاريخ في مواجهة الإرهاب.
من يتأمل هذا التحول، يُدرك أن وزارة الداخلية لم تجرِ فقط تحسينًا فى الأداء، بل أعادت صياغة العلاقة بين الجمهور ومؤسسة الأمن، وكتبت فصلًا جديدًا من الثقة والقبول، لم يعرفه الشارع المصري منذ 50 عاما.
وهكذا، تظل الشرطة كالسارية فى بحرٍ مضطرب، تُثّبت السفينة وتمنعها من الغرق، وتُذّكر الجميع بأن الأمن لا يُصان بالقوة فقط، بل بالثقة، والعدالة، والروح الوطنية والإنسانية التى تسكن نفوس رجالها، ولعل استمرار هذا النهج الإستراتيجي الذي خطّته الوزارة وقياداتها يُزهر علاقة جديدة بين المواطن والدولة، كما يزهر الياسمين في شتاءٍ قارس.