البوصيري.. شاعر تاب عن مدح الملوك فخلّده مدح النبي محمد ﷺ

في زمنٍ بات فيه التكسّب من المديح سلعةً تروَّج في بلاطات الملوك وأروقة الإعلام، تطلّ علينا من تاريخنا الإسلامي صفحةٌ مشرقة، تقصّ علينا حكاية شاعرٍ نبيل، باع الدنيا واشترى الآخرة، حين قرَّر أن يهجر قصائد السلاطين، ويكتب*البردة" قصيدته الخالدة في حبّ النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
هو شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، أحد أبرز شعراء المديح النبوي في التراث الإسلامي، وُلد عام 608هـ / 1212م في دلاص التابعة لمحافظة بني سويف ، ونُسب إلى بوصير في صعيد مصر.
تلقّى علومه في القاهرة، حيث درس العربية والفقه والتصوف، ثم عمل كاتبًا في دواوين الدولة، قبل أن يتجه إلى الشعر ويتفرّغ له، متأثرًا بالمدارس الصوفية وبأعلامها الكبار مثل الإمام الشاذلي وتلاميذه.
اشتهر الإمام البوصيري بقصيدته "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، المعروفة باسم "البُردة"، والتي أصبحت من أشهر وأهم قصائد المديح النبوي في العالم الإسلامي، وتُقرأ إلى اليوم في المناسبات الدينية، وتُدرّس في المعاهد الأزهرية والصوفية.
رؤيا النبي ﷺ
وقد نُسب إلى البوصيري أنه نظم "البُردة" بعد مرضٍ ألمّ به، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يمسح على جسده، فشُفي في الحال، ومن هنا نالَت القصيدة اسم "البُردة"، إشارة إلى بردة الشفاء والمعجزة.
وُلد الإمام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري في مصر، واشتُهر ببلاغته وبيانه حتى عُيِّن في ديوان الإنشاء في عهد الدولة المملوكية، حيث كان يكتب المراسلات الرسمية وقصائد المديح للولاة والأمراء.
وقد وصفه المؤرخ ابن شاكر الكتبي بقوله: "كان كاتبًا فصيحًا، يكتب للملوك والوزراء، وينال جوائزهم".
كانت هذه الوظيفة مرموقة في الظاهر، لكنها كانت تستهلك ضميره ببطء. فقد كان يمدح من لا يستحق، ويُزيّن الأقوال لمن ظلم، واللسان أمانة.
الآية التي غيّرت مسار حياته
يقول الباحث الصوفي مصطفى زايد:بينما كان البوصيريالإمام البوصيري يكتب قصيدة مديح لأحد الأمراء، سمع قارئًا يتلو من المسجد القريب: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد: 16).
توقَّف عن الكتابة، وتزلزل داخله، وقال لنفسه: "أتبيع لسانك لمن يُفسد في الأرض، وتُهمل مدح رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُرجى منه الشفاعة؟"
أضاف زايد :تسجل هذه اللحظة مخطوطة نادرة محفوظة في مكتبة الأزهر بعنوان "بهجة النفوس والأسرار" ، وتُعتبر من أقدم الشهادات التي نقلت مشهد التحوُّل في حياة الشاعر.
الاستقالة الكبرى من الدنيا
بعد هذه اليقظة القلبية، قدَّم البوصيري استقالته من الوظيفة، ومن الدنيا. اختار الزهد، وعاش على قوت يومه.
يؤكد ذلك جلال الدين السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة"، حيث يروي:"خرج من الدنيا إلا بقوت يومه، واشتغل بالعبادة وشعر المدائح النبوية"
ثم كتب قصيدة اعتذار إلى الله ورسوله، وضمنها ندمه العميق، وفيها يقول كما نقل ابن العماد الحنبلي: كُنتُ أَمدَحُ أَهلَ الدُنيا بِمَالِهِمُ،وَاليَوْمَ أَمدَحُ مَولَى العَرشِ بِالعَمَلِ
كَيفَ ارتَضَيتُ بِمَدحِ الظَّالِمينَ وَقَدْتَجَنَّبَ المَدحَ أَهلُ العِلمِ وَالعَقَل.
قصيدة البُردة توبة مكتوبة بالحب
لم تكن قصيدة "البردة" مجرد عمل أدبي، بل كانت وثيقة توبة صادقة، خطَّها البوصيري حبًا في محمد صلى الله عليه وسلم، ورفضًا لمديح كل من لا يستحق. وقد أوصى أولاده بقوله: لا تبيعوا البردة بدرهم.
وقد أصبحت "البردة" أيقونة المدائح النبوية في التاريخ الإسلامي، تنشد في المساجد والزوايا، وتُخطُّ على جدران المحاريب، وتُنشدها القلوب قبل الأصوات.يبدأها قائلاً:
محمدٌ سيِّدُ الكونينِ والثقلينِ
والفريقينِ من عُربٍ ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ
أبرَّ في قولِ "لا" منهُ ولا "نَعَمِ"
هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتُهُلكلِّ هَولٍ منَ الأهوالِ مُقتَحَمِ
دعا إلى اللهِ فالمُستمسِكونَ بهِ مستَمسِكونَ بحبلٍ غيرِ مُنصَرِمِ
دروس من سيرة البوصيري
أن الزهد الاختياري يمنح الروح حريتها، والضمير طمأنينته.وأن الإخلاص في العمل يكتب له الخلود، كما خُلِّدت البردة.
قصة البوصيري ليست حكاية شاعرٍ قديم، بل رسالة حيّة لكل صاحب قلم، وصاحب قرار. لقد ندم على ماضيه، فكتب توبته شعرًا، فخلّده الله في ذاكرة الأمة.