عاجل

في زمن تدعي فيه البشرية أنها وصلت إلى قمة الحضارة والتطور، تقف أمامنا مشاهد من غزة تهز كيان الإنسانية وتكشف عن انحدار أخلاقي مروع يجعلنا نتساءل: أين ذهب الضمير البشري؟ وكيف يمكن للعالم أن يقف صامتاً أمام هذه الكارثة الإنسانية التي تحدث على مرأى ومسمع منا جميعاً؟

لا يمكن لأي إنسان يحمل قلباً ينبض أن ينسى تلك المشاهد المؤلمة التي تنقلها إلينا كاميرات الهواتف من قطاع غزة.. مشهد تلك السيدة الفلسطينية وهي تلملم الطحين من الأرض بيديها، تجمع كل حبة كأنها تجمع قطعة من روحها، وصراخها الذي يخترق القلوب «اللهم العن كل من تركنا في هذا الوضع!» كانت كلماتها سهاماً مسمومة تخترق ضمير كل من يسمعها، تذكرنا بأننا نعيش في عالم فقد إنسانيته.

هذه السيدة لم تكن تجمع الطحين فقط، بل كانت تجمع كرامة شعب يحاول البقاء على قيد الحياة رغم كل المؤامرات، كانت تجمع بقايا أحلام أطفالها الذين يذهبون للنوم جياعاً، وتجمع أشلاء قلب أم تحاول أن تطعم صغارها في عالم تخلى عنها ونسي وجودها.

ومن المشاهد التي لا تُمحى من الذاكرة، تلك الوجوه الهزيلة للأطفال الفلسطينيين الذين يموتون من الجوع بصمت.. أطفال لم يعرفوا من الحياة سوى الألم والجوع والخوف، يموتون وهم يحلمون بقطعة خبز أو رشفة ماء نظيف.. شبان في مقتبل العمر تحولوا إلى هياكل عظمية، تتراقص أمام أعينهم أحلام الحياة الطبيعية التي حُرموا منها؛

هؤلاء الأطفال والشباب لا يموتون بالرصاص أو القنابل فقط، بل يموتون بسلاح أكثر وحشية وهو الجوع المتعمد، إنهم يموتون ببطء، يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، في عذاب لا يطاق، بينما العالم يتفرج ويتناول وجباته الفاخرة في صمت مخزي.

إن استخدام الجوع كسلاح حرب يشكل انتهاكاً صارخاً للمادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، والتي تحظر بشكل قاطع تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، لكن من يهتم بالقانون الدولي عندما تكون الضحايا فلسطينيين؟

وفي مشهد يجسد قمة الوحشية والانحطاط الأخلاقي، نرى ذلك الشاب الفلسطيني الذي كان يحمل كاميرته في ميناء غزة، يحاول توثيق المأساة ونقل صوت شعبه للعالم، فتستهدفه رصاصات الاحتلال بدم بارد، لقد قُتل لأنه حمل الحقيقة، قُتل لأنه أراد أن يري العالم وجه الجريمة، قُتل لأنه رفض أن يصمت.

هذا الشاب لم يكن يحمل سلاحاً، لم يكن يهدد أحداً، كان فقط يحمل أداة التوثيق ليقول للعالم «انظروا ماذا يحدث لنا!» لكن حتى هذا الحق البسيط في نقل الحقيقة أصبح جريمة يُعاقب عليها بالموت..
قتل الصحفيين والمصورين يعتبر جريمة حرب وفقاً للمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تنص على حماية الصحفيين أثناء أداء مهامهم المهنية، لكن أين تطبيق هذه القوانين عندما يكون القاتل محمياً بالفيتو الأمريكي؟

ما نشهده اليوم في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل هو انعكاس لأزمة أخلاقية عميقة تعيشها البشرية، لقد وصلنا إلى مرحلة من الانحطاط الأخلاقي حيث أصبح قتل الأطفال وتجويعهم أمراً عادياً، حيث أصبحت المجازر مادة إعلامية تُستهلك مع فنجان القهوة الصباحي، حيث أصبح الصمت على الجريمة فضيلة والصراخ من أجل العدالة تطرفاً.

لقد تحولت القيم الإنسانية إلى مجرد شعارات فارغة تُرفع في المحافل الدولية، بينما الممارسة على الأرض تكشف عن وحشية لا تختلف عن وحشية العصور المظلمة، وأصبحت حياة الإنسان الفلسطيني أرخص من ثمن الرصاصة التي تقتله، وأصبحت معاناته مجرد إحصائيات باردة في تقارير المنظمات الدولية.

الأمر الأكثر إيلاماً من الجريمة نفسها هو صمت العالم عليها. صمت القادة الذين يتحدثون عن حقوق الإنسان في كل مناسبة، صمت المثقفين الذين يدعون الدفاع عن القيم الإنسانية، صمت المنظمات الدولية التي أُنشئت أصلاً لحماية الضعفاء والمظلومين؛

هذا الصمت ليس مجرد تقاعس أو إهمال، بل هو شراكة حقيقية في الجريمة، فالذي يرى الجريمة ولا يتحرك لوقفها يصبح شريكاً فيها، والذي يملك القدرة على إنقاذ الأرواح ولا يفعل يتحمل جزءاً من دماء الضحايا، إن المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تلزم جميع الدول بمنع هذه الجريمة وقمعها، وليس مجرد التنديد بها، لكن ما نشهده هو فشل مريع في تطبيق هذا الالتزام القانوني والأخلاقي.

وعندما تصرخ تلك الأم الفلسطينية وهي تجمع الطحين من الأرض وتدعو على كل من تركها في هذا الوضع، فإنها لا تدعو على الجلاد فقط، بل تدعو على كل من صمت عن الجريمة، على كل من تواطأ مع الظلم، على كل من أغلق عينيه عن المأساة... دعوتها هذه ليست مجرد كلمات يائسة، بل هي حكم تاريخي على جيل بأكمله اختار الصمت على العدالة، اختار المصالح على الأخلاق، اختار الراحة على الواجب الإنساني. إنها دعوة ستبقى تطارد ضمائر الصامتين إلى يوم الدين.

إننا نعيش لحظة تاريخية فارقة، لحظة ستحكم عليها الأجيال القادمة بقسوة، سيسأل أطفالنا وأحفادنا «أين كنتم عندما كان أطفال غزة يموتون من الجوع؟ أين كنتم عندما كانت الأمهات تجمع الطحين من الأرض؟ أين كنتم عندما كان الشباب يُقتلون لأنهم حملوا الكاميرا ليوثقوا الحقيقة؟».

فماذا سنجيب؟ هل سنقول لهم إننا كنا مشغولين بأمورنا الشخصية؟ أم سنقول إننا كنا عاجزين؟ أم سنعترف بأننا كنا جبناء اخترنا الصمت خوفاً من دفع ثمن الحق؟

إن ما يحدث في غزة اليوم هو اختبار حقيقي للضمير الإنساني، إنه اختبار لكل إنسان يدعي أنه يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان، إنه اختبار لكل من يدعي أنه متحضر ومتطور، لا يمكننا أن نقف صامتين أمام هذه المأساة ونحتفظ بكرامتنا الإنسانية، لا يمكننا أن نتناول طعامنا بشهية ونحن نرى أطفال غزة يموتون من الجوع، لا يمكننا أن ننام مرتاحين ونحن نسمع صرخات الأمهات الثكالى.

إن الحد الأدنى للكرامة الإنسانية يتطلب منا أن نتحرك، أن نتكلم، أن نكسر حاجز الصمت المخزي، قد لا نملك القدرة على وقف الجريمة فوراً، لكننا نملك القدرة على كسر الصمت، على فضح الحقيقة، على الوقوف مع الضحايا ولو بالكلمة.

ورغم كل هذا الظلام، رغم كل هذه الوحشية، رغم كل هذا الصمت المخزي، يبقى الأمل موجوداً، أمل في أن تستيقظ الضمائر النائمة، أمل في أن تنتصر العدالة في النهاية، أمل في أن يدفع المجرمون ثمن جرائمهم، أمل في أن تنتهي هذه المأساة ويعيش أطفال فلسطين في أمان.. هذا الأمل لن يتحقق بالانتظار أو بالصمت، بل بالعمل والتحرك والصراخ في وجه الظلم، كل واحد منا مسؤول، كل واحد منا مطالب بأداء دوره، مهما كان بسيطاً، في هذه المعركة بين الحق والباطل، بين العدالة والظلم، بين الإنسانية والوحشية.

إن صرخة تلك الأم الفلسطينية وهي تجمع الطحين من الأرض يجب أن تبقى تدوي في أذهاننا، تذكرنا بمسؤوليتنا الإنسانية، تحرك ضمائرنا النائمة، تدفعنا للعمل من أجل وقف هذه المأساة، فالتاريخ لن يرحم الصامتين، والضمير الإنساني لن يغفر للمتواطئين مع الظلم.

تم نسخ الرابط