عاجل

جاءت تصريحات الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، حول أزمة العقارات الآيلة للسقوط لتضع الدولة يدها مجددا على واحدة من أكثر القضايا تعقيدا وتشابكا في ملف الإدارة العمرانية بمصر ، والإشارة إلى أن قانون الإيجار القديم هو أحد الأسباب الرئيسية في استمرار هذه الأزمة ليس بجديد، لكنه هذه المرة يأتي في إطار رؤية أشمل وأكثر واقعية تستهدف تجاوز مرحلة التشخيص والدخول في نطاق المعالجة الفعلية.

في البداية، لا بد من الإقرار بأن أزمة العقارات الآيلة للسقوط ليست نتاج يوم أو عام، بل هي تراكمات لعقود من التجاهل، وسوء الصيانة، وتجميد التشريعات على أنقاض واقع عمراني متغير وقد مثل قانون الإيجار القديم – بصيغته المجمدة لعلاقات الملكية والانتفاع – أحد العوامل الهيكلية في تفاقم هذه الأزمة، من حيث غياب الحافز لدى الملاك للقيام بأعمال الترميم أو الصيانة، مقابل تقادم المباني، وارتفاع نسب التهالك، خاصة في المدن الساحلية.

الإسكندرية، كما أشار رئيس الوزراء، تتصدر قائمة المحافظات التي تعاني من هذه الظاهرة، ليس فقط بسبب ظروفها المناخية التي تزيد من معدلات التآكل، بل أيضا بسبب التركز التاريخي للمباني المؤجرة بنظام الإيجار القديم بها، و هذه المباني، التي كانت يوما رموزا معمارية لعصر زاهر، تحولت مع الزمن إلى عبء إنشائي وأمني على الدولة والمجتمع، وباتت معرضة في أي لحظة للانهيار، مهددة حياة المواطنين وأمنهم.

ورغم ما يثيره الحديث عن قانون الإيجار القديم من حساسية اجتماعية، إلا أن التعامل الجاد مع هذا الملف لم يعد خيارا بل ضرورة فالدولة معنية أولا وأخيرا بالحفاظ على أرواح المواطنين، ولا يمكن الاستمرار في تجميد الوضع على حساب السلامة العامة ولذلك، فإن مقاربة الحكومة لهذه القضية يجب أن تنطلق من منطق التوازن بين حقوق الملاك، ومصالح المستأجرين، وحماية الدولة لمواطنيها.

في هذا السياق، يجب التفرقة بين حالات السكن، فالوحدات السكنية التي يقطنها مواطنون لا يملكون بديلا يجب أن تحظى بمعالجة إنسانية مرنة، سواء من خلال توفير وحدات بديلة، أو تعويضات انتقال مناسبة، أو حتى تسهيلات في التملك ضمن مشروعات الإسكان الاجتماعي أما الوحدات المغلقة، أو المستغلة لأغراض غير سكنية، أو التي يثبت تهالكها بما يهدد السلامة الإنشائية، فلابد أن تعالج تشريعيا بحسم.


لقد آن الأوان لأن تكون لدينا قاعدة بيانات متكاملة توضح خريطة المباني القديمة المؤجرة بنظام الإيجار القديم، تشمل عمر العقار، حالته الإنشائية، هوية المستأجر، طبيعة الاستخدام، ووضع الملكية، لأنه دون هذه البيانات، تظل المعالجة قاصرة عن الإحاطة بجذور الأزمة، وتستمر الحلول في الدوران في فلك العشوائية، كما أن دور الإدارة المحلية في هذه القضية حاسم فالمحافظات، باعتبارها الأقرب إلى الواقع، مطالبة بتكثيف حملات الفحص والرصد، وتفعيل لجان السلامة الإنشائية، وإنشاء غرف طوارئ تتعامل بشكل سريع مع البلاغات الواردة عن تصدعات أو انهيارات، واللافت أن الحكومة، كما أشار رئيس الوزراء، بدأت بالفعل في هذا الاتجاه، وهو أمر مشجع ويجب البناء عليه.

إن أزمة الإيجار القديم والعقارات الآيلة للسقوط ليست مجرد ملف إداري، بل هي مرآة تعكس العلاقة بين المواطن والدولة، وبين التشريع والواقع، وبين العدالة والفاعلية وإذا أردنا أن نؤسس لبيئة عمرانية آمنة ومستدامة، فعلينا أن نواجه هذه التحديات بشجاعة، و بحكمة، و بإرادة سياسية لا تعرف التراجع.

وفي النهاية، الحل لا يكمن في هدم العقارات القديمة، بل في إعادة الحياة إليها فمصر تستحق أن تنقذ تراثها العمراني، و تستثمره كفرصة، لا أن تتعامل معه كعبء، والتشريعات، حين تكون مرنة ومتوازنة، تصبح أداة للتنمية، لا عائقا أمامها.

تم نسخ الرابط