عاجل

التنمر حين تتحوّل الكلمات إلى طعنات صامتة في الروح

التنمر
التنمر

وراء كل ضحكة مرتعشة، وكل صمت ثقيل، هناك قصة تبدأ غالبًا بجملة جارحة، أو نظرة احتقار، أو تعليق ساخر على منصات التواصل، هناك، في المساحات التي نظنها آمنة لأبنائنا، يكمن خطر نفسي يفتك بالضحايا دون أن يترك أثرًا ظاهريًا إنه التنمر، ذاك السلوك العدواني المتكرر الذي لم يعد مجرد مشكلة مدرسية، بل تحول إلى أزمة مجتمعية عميقة، تهدد تماسك الأفراد وصحتهم النفسية.

ففي الوقت الذي تروّج فيه المجتمعات لمفاهيم التطور والتحضر، لا تزال فئة من الناس تمارس التنمر بأشكاله المختلفة، سواء عبر الإيذاء الجسدي المباشر، أو الإذلال اللفظي، أو حتى التهكم والإقصاء عبر العالم الرقمي، وكلما تجاهلنا هذه السلوكيات، زاد الثمن الذي يدفعه الضحايا من صحتهم النفسية واستقرارهم العقلي.

بين الظاهر والمخفي التنمر كجريمة نفسية صامتة

ما يميّز التنمر عن باقي أشكال العنف، هو طبيعته "الصامتة" أحيانًا، إذ غالبًا ما يخفي الضحايا معاناتهم وراء ابتسامة مزيفة، أو انسحاب تدريجي من التفاعل مع الآخرين، قد لا يُدرك الأهل أن ابنهم الذي كان يتحدث كثيرًا في العائلة، بات صامتًا ومنزويًا لأنه يتعرض للإهانة المتكررة في مدرسته أو عبر وسائل التواصل.

وتؤكد التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية واليونيسف أن التنمر أصبح من الأسباب الرئيسة التي تؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأطفال والمراهقين، كما أنه مرتبط بزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، اضطرابات القلق، إيذاء النفس، وأفكار الانتحار.

إحصائيات صادمة من العالم ومصر

وفقًا لليونسكو، فإن حوالي 32% من طلاب العالم قد تعرضوا لشكل من أشكال التنمّر.

في مصر، تشير تقارير المجلس القومي للطفولة والأمومة إلى أن ما يقرب من 60% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عامًا واجهوا شكلًا من أشكال التنمر اللفظي أو الجسدي أو الإلكتروني.

وفي استطلاع للرأي أجرته جامعة القاهرة عام 2023، أقرّ 41% من المراهقين بتعرضهم للتنمر بشكل أسبوعي على الأقل.


هذه الأرقام، وإن كانت مقلقة، لا تمثل سوى جزء من الحقيقة، إذ أن النسبة الكبرى من الضحايا لا يفصحون عما يتعرضون له، إما خوفًا من وصمة اجتماعية، أو لغياب الثقة في إمكانية الحماية من قبل الأسرة أو المؤسسة التعليمية.

التنمر الإلكتروني الخطر الجديد داخل كل بيت

في السنوات الأخيرة، انتقلت ساحة التنمر من ساحات المدرسة والشارع إلى شاشات الهواتف المحمولة. ففي عالم مفتوح، لا حدود فيه للكلمة أو الصورة، أصبح التنمّر الإلكتروني أكثر قسوة وخطورة من الأشكال التقليدية.
صورة مفبركة، تعليق جارح، أو حملة سخرية جماعية يمكن أن تقلب حياة طفل أو مراهق رأسًا على عقب.

تقول الطالبة "م.أ"، 15 عامًا، في شهادة لمراسلنا: "بعد أن نشرت إحدى زميلاتي صورًا محرّفة لي على أحد التطبيقات، بدأت موجة من السخرية داخل المدرسة. لم أعد أرغب في الذهاب للدراسة، وبكيت كثيرًا دون أن أستطيع البوح لأسرتي


مختصون نفسيون  آثار التنمر نفسية وسلوكية قد تمتد لعقود

يرى الدكتور عمرو إسماعيل، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، أن التنمر يترك آثارًا طويلة المدى على نفسية الضحية، ويقول
لا يمكننا الاستخفاف بتأثير كلمة جارحة أو نظرة استهزاء. الطفل أو المراهق الذي يتعرض للتنمر يتطور لديه شعور بالدونية وقد يعاني من اضطرابات مزاجية، فقدان الثقة، واضطراب العلاقات الاجتماعية لاحقًا

ويضيف ما لا يدركه الكثيرون هو أن بعض السلوكيات الإجرامية لدى المراهقين أو حتى بعض المشكلات النفسية لدى البالغين تعود جذورها إلى تجربة تنمّر لم يتم التعامل معها بشكل صحي في وقت مبكر".


دور الأسرة والمدرسة والمجتمع في المواجهة

يُجمع الخبراء على أن الحلول لا تأتي من جهة واحدة فقط، بل تحتاج إلى تضافر جهود الأسرة، المدرسة، الإعلام، والمؤسسات التشريعية.

الأسرة ينبغي أن تكون الحضن الأول الداعم، وأن تفتح قنوات حوار دائمة مع الأبناء، لرصد أي تغيرات في سلوكهم أو حالتهم النفسية.

المدرسة تحتاج إلى تفعيل دور الأخصائي النفسي والاجتماعي، وإرساء قوانين حاسمة ضد التنمر، والتوعية بمخاطره.

المجتمع والإعلام مسؤولان عن نشر ثقافة التسامح، قبول الآخر، ورفض السخرية والتنمر بأي شكل.

التنمّر لا يعبّر عن قوة الجاني بل عن هشاشته

من المهم أن نُدرك أن الشخص المتنمر ليس قويًا، بل في الغالب يعاني من اضطرابات في بيئته التربوية أو النفسية، ويعكس تنمره إحساسًا بالنقص أو محاولات للفت الانتباه. لذا، فإن العلاج لا يقتصر على دعم الضحية فقط، بل يشمل أيضًا تقويم سلوك الجاني.

فلنكسر الصمت قبل فوات الأوان

قد يبدأ التنمّر بكلمة، لكنه قد ينتهي بحياة
وفي مجتمع يتسارع فيه الإيقاع وتزداد فيه الضغوط، لا بد من وقفة حقيقية مع هذه الظاهرة. فلننتبه لأبنائنا، لزملائنا، ولنكن يدًا داعمة لكل من يعاني بصمت. فالصحة النفسية ليست رفاهية، بل حق أساسي لكل إنسان.

تم نسخ الرابط