حكم إعطاء أحد المشتركين في الجمعية مبلغًا من المال للتنازل عن دوره

ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول: ما حكم إعطاء أحد المشتركين في الجمعية مبلغا من المال للتنازل عن دوره؟ فقد اشترك رجلٌ في جمعية شهريَّة، وموعد تسلُّمه لدَوْرِه فيها سوف يكون بعد ستة أشهر، فطلب من الذي سيتسلَّم الجمعية بعد شهرين أن يعطيه دَوْرَه فيها، فوافق صاحب الدَّوْر المتقدِّم على ذلك، غير أنَّه اشترط عليه أن يأخذ منه مقابل ذلك مبلغًا من المال، فهل يجوز ذلك شرعًا؟
أخذ العوض عن مبادلة الأدوار حرام
من جانبها أجابت دار الإفتاء قائلة: يَحرُم شرعًا أخذُ العِوَض عن مبادلة الأدوار في تلك الجمعيَّات، فإن أمكن المشترك المُتَقدِّم التَّنَازُل عن دَوْرِه لصاحب الحاجة المتأخِّر عنه في الدَّور من غير عِوَضٍ، دفعًا لحاجته، وتفريجًا لكربته، وتيسيرًا عليه، رجاء الأجر والثواب من الله تعالى فعَلَ؛ امتثالًا لقول الله عَزَّ وَجَلَّ في مُحكَم التنزيل: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195] وإلَّا احتفظ بدَوْرِه كما هو.
بيان المراد بالجمعية وحكمها الشرعي
وتابعت دار الإفتاء أن الجمعية عبارةٌ عن اشتراك مجموعةٍ من الأفراد في دفع مبالغ مُعَيَّنة في وقتٍ محدَّد من كلِّ شهرٍ، على أن يأخذ المجموعَ أحدُ الأفراد المشترِكين بالجمعية، مع تناوبهم فيما بينهم كلَّ شهرٍ في الاستحقاق، وذلك وفق جدولٍ معيَّن حتَّى تنتهي الدورة كاملة، مع توكيل أحد الأفراد بجمع وتسليم هذه الأموال إلى مَن يأتي دَوْرُه في الاستحقاق.
وتكيَّف هذه الجمعية على أنها قرضٌ حسنٌ من الأفراد بعضهم لبعض، ووجه ذلك: أنَّ كلَّ واحدٍ من المشتركين فيها، يدفع المبلغ المحدد المتفق عليه، في الوقت المحدَّد من كلِّ شهر، للقائم على جمع الأموال، من أجل إعطائها لصاحب الدَّور فيها، على أنْ يُردَّ إليه جميعُ ما دفعه وما سيدفعه من أقساط بعد ذلك على حسب دَوره في الجمعية، وهو ما يتوافق مع طبيعة القرض الحسن؛ حيث إن حقيقته هي: دفع مالٍ على سبيل الإرفاق لمن ينتفع به على أن يرد بدله. ينظر: "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين الحنفي ، و"الذخيرة" للإمام شهاب الدين القَرَافِي المالكي و"إعانة الطالبين" للإمام أبي بكر الدِّمْيَاطِي الشافعي ، و"شرح منتهى الإرادات" للإمام أبي السعادات البُهُوتِي الحنبلي
والقرض الحسن مندوبٌ إليه رغَّبَ الشَّرع الشريف فيه؛ لما فيه من الإرفاق والإحسان إلى المقترض والتَّبرع له، عملًا بقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 11]، ولقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ ڪُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» أخرجه الإمام مسلم.
والإجماع منعقدٌ على ندبه واستحبابه، كما في "العدة شرح العمدة" للإمام بهاء الدين المَقْدِسِي .
وقد نصَّ الإمامُ الفقيه المُحَدِّث قاضي القُضَاةِ وليُّ الدين أبو زُرْعَة العراقي على جوازها شرعًا، كما نقله عنه الإمامُ شهاب الدين القَلْيُوبِي في "حاشيته على شرح الإمام المَحَلِّي"
حكم إعطاء أحد المشتركين في الجمعية مبلغًا من المال للتنازل عن دوره
إذا تقرَّر أنَّ الجمعية -على النحو الذي بيَّنَّاه- تُكيَّف على أنَّها قرضٌ حسنٌ، فالأصل في القرض ألَّا يَجُرَّ للمقرِض نفعًا مطلقًا، سواءٌ كان النفع مؤجَّلًا أو معجَّلًا، وأنْ يكون غير مشروط بزيادةٍ على أصله، وأنْ يكون على سبيل الترفُّق لا التَّربُّح؛ لأنَّه من عقود التَّبرُّعات لا المعاوضات، وهذا ما عليه جماهير الفقهاء من المذاهب الفقهية الأربعة.
قال الإمام علاء الدين الكَاسَانِي الحنفي في "بدائع الصنائع" في بيان شرائط ركن القرض: [وأما الذي يرجع إلى نفس القرض: فهو ألَّا يكون فيه جَرُّ منفعةٍ، فإنْ كانَ لمْ يَجُزْ، نحو ما إذا أقرضه دراهم غلة، على أنْ يَرُدَّ عليه صحاحًا، أو أقرضَهُ وشرط شرطًا لهُ فيه منفعة] .
وقال الإمام شهاب الدين النَّفَرَاوِي المالكي في "الفواكه الدواني" (2/ 89، ط. دار الفكر): [(ولا يجوز) أي يَحرُم (سلفٌ يجرُّ نفعًا) لغير المقتَرِض، بأنْ يَجُرَّ للمقرِض -بكسر الراء- أو لأجنبيٍّ مِن ناحية المقترض؛ لأنَّ السلف لا يكون إلا لله، فلا يقع جائزًا إلا إذا تَمَحَّضَ النفعُ للمقترِض] اهـ.
وقال الإمام النَّوَوِي الشافعي في "روضة الطالبين": [يَحْرُم كُلُّ قرضٍ جَرَّ منفعة].
وقال شيخ الإسلام ابن حَجَرٍ الهَيْتَمِي الشافعي في "تحفة المحتاج" (5/ 46، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [(ولا يجوز) قرضُ نقدٍ أو غيرِهِ إن اقترن (بشرط ردٍّ صحيحٍ عن مُكَسَّرٍ أو) ردِّ (زيادةٍ) على القدر المُقرَض أو ردِّ جيِّدٍ عن رَدِيءٍ أو غير ذلك من كل شرطٍ جرَّ منفعةً للمقرض] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني": [وكلُّ قرضٍ شُرط فيه أنْ يزيدَهُ فهو حرامٌ بغير خلاف] ـ.
وقد نقل الإمامُ ابن المُنْذِر الإجماعَ على ذلك، فقال في "الإجماع": [وأجمعوا على أنَّ المسلف إذا شرط عُشْر السلف هدية أو زيادة، فأسلفه على ذلك، أن أخذه الزيادة ربا] ا.
كما أنَّ عقد القرض يُعَدُّ "عقد إرفاق وتبرُّع، فإذا شَرَط فيه الزيادة أخرَجَهُ عن موضوعه"، كما في "المغني" للإمام ابن قُدَامَة (4/ 240).
وعلى ذلك: فإنَّه لا يجوز لأحد المشتركين في تلك الجمعيَّة أن يأخذ ممَّن يُقرضُهم من مشتَرِكِي الجمعية ما زاد على ما دفعه من أقساط مجتمعة؛ لأنَّه يؤول إلى تحقيق نفعٍ زائد له دون غيره، ووجه ذلك: أنَّ المشترك المتقَدِّم لَمَّا وافق على مبادلة دَوْره مع المشترك المتأخِّر على أن يأخذ منه ألف جنيهٍ مثلًا، فكأنَّه قال له: أعطني ألف جنيهٍ على أن أُقرضك، فصار هذا المبلغ حينئذٍ نفعًا معجَّلًا اشترطه صاحبُ الدَّوْر المتقدِّم ليُقرِض صاحب الدَّوْر المتأخِّر.
وإذا اتَّفق المشتَرِكُ صاحبُ الدَّوْر المتأخِّر في الجمعية مع مشتَرِكٍ آخَر متقدِّمٍ عليه في الدَّوْر على مبادلة أدوارهما مقابل مبلغٍ من المال، فإنَّ هذا الشرط يُعدُّ باطلًا؛ لأنَّه شرطٌ محرَّم يؤول إلى الربا، ولا يُجاز من الشروط إلَّا ما كان مباحًا؛ لقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278-279].
قال الإمام الشافعي في "الأم": [إنما يُوَفَّى من الشروط ما يَبِينُ أنَّه جائزٌ ولم تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنَّه غير جائزٍ].