ظهر مجددًا الجناح المسلح لتنظيم الإخوان المسلمين، في تسجيل مصور جديد لحركة “حسم” الإرهابية. وجوه ملثّمة، أسلحة موجهة، تدريبات عسكرية في مناطق مفتوحة خارج البلاد ، ورسائل مباشرة من خلف السلاح. ليس مهمًا من ظهر في الفيديو، فجميعهم بلا ملامح، وجميعهم معروفو التوجه والانتماء، وبعضهم من الهاربين المتورطين في قضايا إرهاب، لكن المهم حقًا هو لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الصورة؟
هناك من سارع إلى تفسير المشهد باعتباره انعكاسا لخلاف داخلي أو انقسام تنظيمي، بينما الحقيقة مغايرة تماما . الفيديو لم يكن تمردًا، بل تنسيقًا. لم يكن مفاجئًا، بل متّفقًا عليه. نحن لا نرى جناحاً انفلت من التنظيم، بل نرى وجهاً قبيحاً يتقدّم إلى الواجهة بينما يتراجع وجهٌ آخر يُراد له أن يبدو “عاقلاً” و”قابلاً للحوار”.
الحقيقة أن هذا الظهور المسلح ليس عشوائيًا ولا عبثيا ، بل هو جزء من مشهد سياسي مزدوج الأهداف. أولًا، يُراد للجناح العسكري أن يظهر كـ”كبش فداء”، يحمل وزر العنف ويُقدّم كتنظيم منفصل عن الإخوان، حتى لا ينسحب التصنيف الإرهابي على التنظيم الأم. هذه لعبة قديمة، لكنها تُعاد بذكاء مفضوح: “نحن نرفض العنف، هؤلاء لا يمثلوننا”. وكأن الجناح المسلح خرج من العدم، لا بيعة تربطه، ولا تمويل يصله، ولا فكر يغذّيه.
ثانيًا، يريد التنظيم عبر هذا التوقيت المدروس أن يلوّح بالعنف من جهة، وأن يمدّ يده للحوار من جهة أخرى. إنها رسائل مركبة، موجهة للدولة، وللخارج، وللوسطاء الإقليميين والدوليين: “لدينا من يرفع السلاح، لكننا – كتنظيم – يمكننا احتواؤه. نحن صوت الاعتدال الذي يجب الإنصات إليه”. والهدف واضح: دفع الدولة المصرية إلى التعاطي مع جناح يُقدَّم باعتباره معتدلًا، تمهيدًا لإعادة الإخوان إلى المشهد العام من بوابة سياسية ناعمة.
التلويح بالعنف إذا ليس خروجا عن السيطرة، بل استخدام سياسي متفق عليه داخل التنظيم، يُراد منه الضغط وتقديم العرض في آن. إنها استراتيجية الابتزاز الناعم: إذا أردتم وقف التهديد، فافتحوا لنا باباً. وإذا أردتم استقرارًا، فاعترفوا بنا طرفاً سياسياً. والواقع أن هذه ليست المرة الأولى، فتنظيم الإخوان ظلّ تاريخياً يوظف العنف ويتبرأ منه في اللحظة نفسها، ليمنح نفسه مساحة للمناورة، وهامشاً للهروب من العقاب السياسي والقانوني.
لكن ما يغيب عن هذا المشهد المصطنع أن الدولة المصرية لم تعد تُخدع بهذه المناورات. تجربة السنوات العشر الأخيرة – منذ سقوط حكم الجماعة – كشفت طبيعة التنظيم، وتشعباته، وطرائق تواصله، وتكتيكاته التي تجمع بين الخطاب المزدوج والعمل السري، وبين التهدئة والتصعيد، بحسب اللحظة والغاية.
إن الفيديو الأخير ليس مجرد مشهد استعراضي لمجموعة متطرفة، بل هو رسالة سياسية بثياب عسكرية. وهو يؤكد أن الجماعة لا تزال تستدعي العنف كلما شعرت بانسداد المسار، لكنها تريد الآن أن تظهر بمظهر “المنقذ” من عنف هي مَن يصنعه.
ولأن الرسائل لا تُقرأ فقط في مضمونها بل في توقيتها، فإن إطلاق هذا التسجيل في وقت تشهد فيه مصر حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، يفتح الباب للتساؤل عن الأطراف الإقليمية والدولية التي لا تزال تراهن على الإخوان كورقة ضغط ضد الدولة المصرية. هؤلاء لا يراهنون على فكر الجماعة، بل على قابليتها للاستخدام. هي ورقة ضغط عند الحاجة، وصوت اعتراض عند اللزوم، وظل لعنف يمكن أن يُستخدم دون تبني مباشر.
إن الرد الحقيقي على هذا النوع من الابتزاز لا يكون في السجال الإعلامي، بل في الوضوح السياسي والتماسك الوطني. مصر ليست في لحظة ارتباك، ولا في حاجة إلى وسطاء يقنعونها بأن تتحدث مع من يلوّح بالسلاح في يد، ويعرض الحوار باليد الأخرى.
ما نحتاج إليه هو فضح هذه اللعبة أمام الرأي العام المصري والعربي والدولي: أن هذا التنظيم لا يزال وفياً لفكرته الأم، وأن أي محاولة لتجميله أو تفكيكه إلى أجنحة “متشددة” و”معتدلة” ليست سوى محاولة لتمريره من الباب الخلفي.
لقد سقطت الأقنعة مراراً ، لكن من يراهن على ذاكرة قصيرة، عليه أن يدرك أن مصر اليوم لا تنسى، ولا تتسامح مع الإرهاب مهما تنكّر، أو تزيّا بزى مدني!