مؤتمر فيينا.. من مناهضة الصهيونية إلى رفض الإبادة للشعب الفلسطيني

لم تحظ الأيديولوجية الصهيونية منذ البداية بتوافق كافة التيارات الدينية والسياسية اليهودية، بل ترافق ميلادها فى أواخر القرن التاسع عشر مع ظهور تيارات مناهضة لها واعتبارها أيديولوجية استيطانية عنصرية، مثل التيار الدينى الأروثوذوكسى الممثل بالحاخامات اليهود الأرثوذوكس الذين عارضوا هذه الأيديولوجية واعتبروها مؤسسة "وضعية" تزعم تنفيذ الوعد الإلهى بعودة اليهود إلى فلسطين، وهذا الوعد من وجهة نظرهم لا يأتى إلا بمشيئة الرب مثل طائفة "ناطورا كارتا". كذلك عارض منظروا وممثلوا التيارات الاشتراكية والأممية الصهيونية الأيديولوجية.
واعتبروا أنها تستبدل الطبقة والوعى الطبقى بالهوية العرقية والدينية، وعارضها أيضاً الكثيرون من المثقفين الألمان وغيرهم من التيار الليبرالى واعتبروها مشروعاً انعزالياً يعوق اندماجهم الوطنى فى المجتمعات التى تؤويهم. ولم تكن هذه المعارضات مجرد معارضات أخلاقية أو دينية، بل انطوت على وعى سياسى بحقيقة الصهيونية كمشروع استعمارى للخلاص اليهودى، ومحاولة لإسقاط المظلومية اليهودية على حقوق الشعب الفلسطينى، واعتبروا أن هذه الأيديولوجية عدوان على التراث اليهودى الروحى والأخلاقى وأن هذا التراث ليس مشروعاً للسيادة الجغرافية.
ووفقًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، غير أن هذه التيارات المناهضة للأيديولوجية الصهيونية لم تستطع أن تمارس التأثير الذى كانت تنشده أى ووقف تمدد هذه الأيديولوجية ووقف زحفها على فلسطين لإقامة مشروع الدولة اليهودية الإحلالية، بسبب ظروف التواطؤ الغربى مع نخبة الصهيونية واتساع دائرة النفوذ الصهيونى فى الدوائر السياسية الغربية، وظهور المحرقة النازية والحرب العالمية الثانية وتوافد الهجرات اليهودية. وبسبب هذه الظروف آثر التيار الدينى المناهض للصهيونية الصمت بل وفضل التعامل مع الواقع؛ أى الدولة الصهيونية إلى أن انتهى الأمر خلال العقد الآخر بالاندماج كلية فى المؤسسة الصهيونية والأيديولوجية الصهيونية وحدث ما يعرف الآن "بصهينة" التيار الدينى المتطرف الأرثوذوكسى و"تدين" التيار القومى المتطرف، أما المقولات الاشتراكية والأممية المناهضة للصهيونية فواجهت مصيراً مختلفاً، حيث توارى نفوذها وتأثيرها وانحرف مجراها وهمشت أفكارها فى مجرى تدعيم نفوذ التيار الرئيسى للصهيونية والإنجازات التى يزعم أنه حققها.
فى إطار هذه الخلفية التاريخية لظهور التيارات اليهودية المناهضة للأيديولوجية الصهيونية، يمكن النظر إلى المؤتمر الذى عقد فى فيينا بين الثالث عشر والخامس عشر من يونيو عام 2025 وحضره ما يقرب من 500 شخصية من هذه التيارات من أكاديميين وصحفيين بالإضافة إلى شخصيات فلسطينية، وهو المؤتمر الذى نظمته "مؤسسة فيينا للديمقراطية وحقوق الإنسان فى فلسطين" بالإضافة إلى شبكات دولية متعددة لتأييد الشعب الفلسطينى.
دلالات عديدة
فى هذا السياق، يمكن الوقوف عند بعض الدلالات التى تكتسب معنى رمزياً وسياسياً حول مكان عقد المؤتمر وتوقيته وتأثيره المحتمل على النضال الفلسطينى، وذلك بعيداً عن التهويل أو التهوين.
الدلالة الأولى تتمثل فى مكان عقد هذا المؤتمر وهو مدينة "فيينا" والتى ينتمى إليها مؤسس الصهيونية تيودور هيرتزل والتى أصدر فيها كتابه عن دولة اليهود ودعا فيها إلى إقامة المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة "بازل" السويسرية عام 1897، وتتعلق هذه الدلالة بمناهضة الأيديولوجية الصهيونية فى المكان الذى شهد ولادتها تاريخياً، وانطلاق هذا المؤتمر فى "فيينا" يحمل تأكيداً للتلازم بين ولادة الصهيونية والأيديولوجية الصهيونية وظهور التيارات المناهضة لهذه الأيديولوجية، رغم طول الانقطاع وقصور الأطر التنظيمية التى تؤطر هذه الحركة.
أما الدلالة الثانية فتنصرف إلى الظروف التى يعقد فيها هذا المؤتمر، والتى تتميز ببلوغ المشروع الصهيونى فى نسخته اليمينية المتطرفة دينياً وقومياً ذروة الإبادة للشعب الفلسطينى والتطهير العرقى، وانكشاف طبيعته العدوانية والاستيطانية والإمبريالية، وارتباطه غير القابل للتفكيك بمراكز السيطرة الإمبريالية والشركات الكبرى المنتجة للسلاح والذكاء الاصطناعى واقتصاد الإبادة كما ورد فى تقرير السيدة فرانشيسكا ألبانيزى المبعوثة الخاصة لحقوق الإنسان فى الأراضى المحتلة، هذه الظروف هى التى دفعت إلى عقد هذا المؤتمر لتبرئة اليهود من تمثيل إسرائيل لهم والتعبير عن إدانتهم للممارسات الإسرائيلية والصهيونية بحق الشعب الفلسطينى منذ طوفان الأقصى وما قبله.
وإذا كانت إسرائيل تزعم الدفاع عن يهود العالم وترتكب الجرائم باسمهم؛ فإن هذا القطاع من اليهود الذى حضر المؤتمر أو تعاطف مع مخرجاته ينفى على نحو قاطع صلة اليهود بهذه الجرائم، وينفي الارتباط بين نقد إسرائيل وجرائمها وبين "معاداة السامية" ويستنكر الممارسات الغربية بحق المؤيدين للشعب الفلسطينى وحقوقه فى المساواة والعدل والكرامة، وهذه المعانى تكتسب أهمية بالغة فى ظل الرواية الإسرائيلية الرسمية التى تساوى بين نقد السياسات الإسرائيلية وبين معاداة السامية وترويج هذه الرواية على الصعيد الأوروبى والغربى.
مخرجات المؤتمر وبيانه المعبر عنه، تذهب فى اتجاه تفكيك هذه الرؤية وإظهار سطحيتها وبعدها عن الحقيقة، وقدرة الصهيونية على تحريف الواقع والوقائع على نحو يخدم مصالحها التى تتنافى مع قيم العدل والمساواة والكرامة الإنسانية. وإذا كانت الرواية الإسرائيلية الرسمية تهدف إلى شرعنة الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى، فإن المؤتمر استهدف نزع الشرعية عن الممارسات الإسرائيلية واعتبار إسرائيل كياناً عنصرياً ويطبق سياسات الفصل العنصرى على غرار "جنوب أفريقيا" سابقاً، والمطالبة بدولة واحدة يتمتع فيها السكان الفلسطينيون يهود أو غير يهود بالمواطنة المتساوية بذات الحقوق والواجبات، دولة ديمقراطية تنحو نحو العدل والمساواة والكرامة.
لقد ساهم هذا المؤتمر فى تطوير الخطاب النقدى إزاء إسرائيل والصهيونية من خلال بلورة فهم عميق للمشروع الصهيونى باعتباره مشروعاً استيطانياً إحلالياً، ذا صلة عميقة ببنية الهيمنة العالمية الغربية، والتأكيد على أن الصهيونية ليست مجرد مشروع إقليمى بل جزء لا يتجزأ من منظومة الهيمنة الإمبريالية. وخلال المؤتمر، ظهرت دعوات لبناء جبهة أممية واسعة تضم حركات المقاومة ضد العنصرية والنيوليبرالية واستثمار الأطر القانونية الدولية لمحاكمة مجرمى الحرب الإسرائيليين.
تطور نوعي
يمثل هذا المؤتمر تطوراً نوعياً فى انتقاد الصهيونية، حيث تحول هذا النقد من الإطار النظرى، إلى ساحة السياسة والفعل، من خلال تحالفات متعددة الأبعاد. ومع ذلك، فإن تأثيره قد يظل محدوداً مما يستدعى تطوير آليات جديدة للتأثير والمقاومة والانخراط فى بنى السلطات الغربية العميقة المؤيدة للصهيونية والعنصرية والاشتباك الفعلى والفكرى مع التيارات المسيطرة المغذية للعنصرية والوحشية الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى والعربى، على أسس استعمارية تروج لتخلف الإنسان العربى والفلسطينى وعدم تحضره وعدم قابليته للانخراط فى محتوى المدنية والحداثة.
ورغم أن هذا المؤتمر يعيد بعث مناهضة الصهيونية والعنصرية الاستيطانية ويحاول أن يعيد تأسيس هذه الحركة فى إطار تحالفات جديدة وجبهة أممية فى مواجهة العنصرية والصهيونية والتحالف الإمبريالى الذى يربطهما، فى ظروف دولية تتميز بغياب وتفكك القيم الحاكمة للنظام الدولى واستخدام القوة الوحشية لتحقيق مطالب التحالف الوثيق الغربى الصهيونى، فإنه ينبغى تأمل تأثيره على نحو يخلو من التهوين أو التهويل.
لابد أولاً من الاعتراف بتغييب الصوت الفلسطينى والعربى وعدم منحه الأولوية والاهتمام الضروريين، باعتبار أن هذا الصوت تعبير عن هموم شعب يتطلع إلى التحرير والتحرر من السيطرة الصهيونية، وبناء مستقبله على أسس العدل والمساواة ومن حيث هو كذلك فإنه يرتبط بهموم التحرر العالمى من الهيمنة. فى مقابل ذلك، فإن الصوت الذى عبر عنه المؤتمر يخرج من رحم الغرب وفق هامش الضمير الغربى ومن ثم فهو يكتسب هذه الأهمية بطبيعته الغربية، ولا ضرر فى ذلك بحيث يتم الاهتمام بالصوت الفلسطينى المستقل ويعامل على قدم المساواة بتلك الأصوات القادمة من الغرب.
وثانياً، وهو الأهم، فإن المسار التحررى لليهود من الأيديولوجية الصهيونية ومن الوصمة الأخلاقية التى تلصقها بهم، لا يشكل بديلاً للمسار النضالى الفلسطينى المستقل؛ لأنه هو المسار الحقيقى الذى يكفل للشعب الفلسطينى حريته وكرامته، فضلاً عن أنه المسار المشتبك عملياً وميدانياً مع إسرائيل والصهيونية، ويواجه كافة المخاطر التى تنتجها المؤسسة الصهيونية العدوانية، ومن ثم فإن المسار اليهودى المناهض للصهيونية ينبغى أن يكون محفزاً للمسار الفلسطينى وأن الاندماج بينهما ينبغى أن يكون على قاعدة الندية والمساواة وبرنامج العمل المشترك، والحال أنه لا يمكن الاكتفاء فى الحالة الفلسطينية بتلك الصحوة اليهودية الغربية، بل استكمالها فى مسار موازٍ للتحرر الفلسطينى وانخراط هذا المسار فى التعاون والترابط مع بقية مسارات الكفاح ضد الصهيونية والإمبريالية وحقوق شعوب الجنوب فى التحرر والاستقلال.
وثالثاً، فإنه ينبغى أن نأخذ فى الاعتبار أن جزءاً من هذه الحركة المناهضة للصهيونية قد يقف عند حدود المطالبة بدولتين جنباً إلى جنب مع بقاء إسرائيل ببنيتها العنصرية أو ضبط آلة الحرب والعدوان الإسرائيلية فى الحدود المقبولة غربياً، وهذه الحدود تحول دون بلورة تصور شامل للحل الديمقراطى فى فلسطين ودون التطرق إلى جذور العدوان والعنصرية والاستعمار، والذى بدونه سيبقى الصراع مفتوحاً على مصراعيه فى الشرق الأوسط.
مساحة اللقاء والتقاطع والاشتراك بين المسار اليهودى المناهض للصهيونية والمسار الفلسطينى الكفاحى كبيرة، خاصة وأن المسار النضالى الفلسطينى منذ البداية ومع منظمة التحرير الفلسطينية قد تنبه مبكراً لضرورة التمييز بين اليهودية والصهيونية، واعتبار اليهودية ديانة توحيدية فى حين أن الصهيونية مؤسسة استعمارية عنصرية؛ ولم تكتف منظمة التحرر بهذا التمييز على الصعيد النظرى فقط بل انتقلت إلى تطبيقه فى الواقع حيث عمدت إلى ضم بعض ممثلى اليهود المناهضين للصهيونية إلى المؤسسات الفلسطينية خاصة المجلس الوطنى الفلسطينى باعتباره برلمان الشعب الفلسطينى فى المنفى مثل ألان هاليفى ويورى ديفيس وغيرهم من ممثلى الطوائف اليهودية المناهضة للصهيونية.
ورغم مساحة اللقاء والتقاطع الكبيرة القائمة، فإن التمايز كذلك قائم، ففي حين أن المسار اليهودى لمناهضة الصهيونية يستهدف تصويب المسار الروحى والأخلاقى لليهودية كديانة، والحؤول دون استغلال الصهيونية لليهودية وتشويه قيمها وتنقيتها من الممارسات الصهيونية، فإن المسار الفلسطينى يواجه المخاطر العملية والميدانية والمعاشة الناجمة عن الممارسات الصهيونية من أجل تقرير المصير والمساواة والعدالة.
ولا شك أن مخرجات هذا المؤتمر -بصرف النظر عن حدود تأثيره- تمثل شهادة حق على صوابية الرواية الفلسطينية وتعزيز شرعيتها وفى الوقت ذاته تعرية للرواية الإسرائيلية الصهيونية وزيف ادعائها بأنها تمثل يهود العالم، ويبقى بعد ذلك مهمة تطوير هذه المواقف المناهضة للصهيونية من خلال التنظيم والاستمرار والاستدامة فى تعزيز هذا التوجه الأخلاقى والسياسى والاشتباك الفعلى مع المؤسسات واللوبيات الصهيونية المؤثرة فى القرار الغربى المؤيد لإسرائيل وتقديم الدلائل والوثائق والمعلومات لتعرية هذه المواقف الغربية والصهيونية، وبالإضافة إلى ذلك فإن الأطر التى تنظم هذه الفاعليات ينبغى أن تودع العمل الموسمى والمناسباتى ولسنا فى حاجة إلى وقائع ومناسبات جديدة لاستمرار هذا التوجه أى طبيعة الصهيونية والإبادة باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.