في لحظات قليلة، غطّى الدخان الكثيف سماء القاهرة حول منطقة رمسيس، معلناً اندلاع حريق في واحد من أقدم السنترالات الحيوية بالعاصمة. ورغم السيطرة السريعة على النيران، وعودة الاتصالات تدريجيا، فإن النيران التي اشتعلت داخل مبنى السنترال لم تكن وحدها ما يجب أن يقلقنا..بل ما اشتعل خارجها من حملات، واتهامات، وانفعالات استباقية تهدد ما هو أثمن من كابل أو جهاز..تهدد الثقة.
الواقع أن حريق سنترال رمسيس ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير في بلد تُراكم بنيته التحتية على مدار عقود طويلة، شهدت فيها هذه المؤسسات تآكلًا وظيفيًا، وتقدّمًا عمرانيًا أبطأ من طموح الناس. لكن الخطورة ليست فقط في الحادث ذاته، بل في طريقتنا في التعامل مع الأزمات: بين من يستغلها للهجوم على الدولة، ومن يتعامل معها بآذان مغلقة وأعين متوجسة من النقد.
إنّ الخطر الأكبر في مثل هذه الوقائع هو أن نكتفي بتبادل الاتهامات، أو أن نغلق الملفات بعد إخماد النيران. بينما المطلوب – وما زال ممكنًا – أن نحول هذه الواقعة إلى نافذة إصلاح شجاع، وتقييم صريح لواقع البنية التحتية للاتصالات، وتحديد حجم الاستثمارات المطلوبة لتأمين الشبكات، خصوصًا في مراكز العاصمة ومرافقها الاستراتيجية.
لقد اعتادت الدول الكبرى على التعامل مع الكوارث التقنية كبوابة للإصلاح وليس العقاب وحده، ولعل أقرب الأمثلة ما حدث في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، حيث تحوّلت حوادث مماثلة إلى خطط تطوير وتحديث شاملة للبنية الرقمية ومراكز التحكم، مصحوبة بمكاشفات إعلامية لا تخجل من الاعتراف بالتقصير، لكنها ترفض توجيه الاتهام العشوائي الذي يهدم ولا يبني.
وهنا تأتي مسؤولية الإعلام الجاد:
ليس دوره أن يُجمل الصورة ولا أن يُجلدها، بل أن ينقلها كما هي..بألوانها وظلالها، بعقل ناقد لا حاقد، وبحرص على سلامة الدولة لا على إفلات المسؤول.
الواجب الوطني لا يتعارض مع النقد، بل يتطلبه.
لكن الفارق بين نقد البناء ونقد الهدم هو ما يصنع الفارق بين وطن يتعلم من خطئه، ووطن يعيد أخطاءه في دورة لا تنتهي من الإنكار أو التبرير أو الشتائم.
نحن بحاجة إلى:
1. تحقيق شفاف في الحريق، تُعلَن نتائجه للرأي العام.
2. خطة عاجلة لمراجعة تأمين السنترالات ومراكز التحكم في العاصمة والمحافظات.
3. لجنة تقييم مستقلة تُصدر تقريرًا دوريًا عن كفاءة البنية التحتية للاتصالات.
4. حملة إعلامية توعوية لشرح كيف تعمل منظومة الاتصالات، وكيف يمكن حمايتها شعبيًا ومؤسسيًا.
الأزمات لا تصنع الهجوم، بل تكشفه.
والدول لا تُدان بالحوادث، بل بكيفية إدارتها.
وقد آن أوان أن نُخرج الدولة من دائرة الدفاع الدائم إلى فضاء الفعل المؤسسي الذكي، فالثقة تُبنى بالفعل، لا بالبيان.