إخفاقات روتو.. لماذا تتصاعد حدة الاحتجاجات في كينيا؟

أحيت كينيا، في 25 يونيو 2025، الذكرى السنوية الأولى لاحتجاجات يونيو 2024 التي أسفرت آنذاك عن مقتل 60 شخصًا واختفاء 20 آخرين، بموجة جديدة من التظاهرات الشعبية المناهضة للحكومة، سرعان ما تحولت إلى فاجعة دامية بعد أن فتحت الشرطة النار على المتظاهرين، ما أسفر عن مقتل 19 شخصًا وإصابة نحو 531 آخرين، فيما بلغ عدد الموقفين 179، بحسب اللجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان[1].
ووفقًا لدراسة أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، تأتي هذه التطورات في ظل تصاعد حاد للتوترات السياسية في البلاد، وسط تزايد التقارير عن انتهاكات ممنهجة ضد المعارضين، في سياق يُنذر بتدهور خطير في استقرار البلاد ووضع الحريات العامة.
أبعاد الأزمة
في خضم هذا التصعيد الأمني، أثارت وفاة الناشط الكيني البارز ألبرت أوجوانج، في بداية يونيو 2025، موجة غضب واسعة في أوساط الشباب الكيني، بعدما أعلنت السلطات أنه توفي داخل زنزانته إثر اعتقاله بتهمة “نشر أخبار كاذبة”، وقد أعلنت الشرطة لاحقًا توجيه الاتهام إلى ستة ضباط يُشتبه بتورطهم في مقتله ويخضعون حاليًا للتحقيق، بينما وصف الرئيس ويليام روتو[2] الحادث بأنه “مفجع وغير مقبول”، في أول إدانة علنية من رأس الدولة لتلك السلوكيات.
(*) غضب شعبي وسياسي: زاد هذا الحادث من تصاعد الغضب الشعبي، خاصة في أوساط الشباب (جيل Z) الذين خرجوا احتجاجًا على ظاهرة اختفاء أو تصفية المعارضين خارج إطار القانون، في ما يبدو أنه سياسة ممنهجة لإسكات الأصوات المنتقدة. وفي تعليقها، قالت السياسية الكينية جوستين موتوري[3] أن ألبرت لم يمت متأثرًا بإصابة ذاتية كما زعمت السلطات، بل قضى نتيجة ثقافة شرطية وحشية ترى في حياة الشباب الكينيين، ولا سيما القادمين من مجتمعات مهمشة تاريخيًا، مجرد أرواح قابلة للاستهلاك والإهمال.
(*) حظر التغطية الإعلامية: لم يتوقف الغضب عند حدود الشارع، بل امتد إلى المجال الإعلامي، حيث أثار قرار هيئة الاتصالات الكينية حظر التغطية المباشرة للاحتجاجات على القنوات والإذاعات المحلية عاصفة من الانتقادات. وزعمت الهيئة أن البث الحي ينتهك المادتين 33 (2) و34 (1) من الدستور وكذلك المادة 461 من قانون الاتصالات الكيني، مهددة بفرض عقوبات على وسائل الإعلام غير الملتزمة، بينما رأت منظمات المجتمع المدني في القرار محاولة للتعتيم على الانتهاكات وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب، ووصفت الحظر بأنه غير دستوري.
دوافع متعددة
وفي خلفية التطورات، يعلل إكس إن إيراكي، أستاذ الاقتصاد بجامعة نيروبي، أن الاحتجاجات الأخيرة في كينيا تعبّر عن غضب عميق ومتراكم لدى جيل الشباب، الذي يشكّل نحو 80% من السكان ويعاني من بطالة واسعة رغم تمتّعه بمستوى تعليمي مرتفع. ويشير إلى أن مشروع قانون المالية لعام 2024، كان مجرد محفز لانفجار هذا الغضب، في ظل تفاقم أزمات مثل الفساد، وارتفاع تكلفة المعيشة، وتضخم القطاع غير الرسمي الذي يشغل أكثر من 80% من القوى العاملة، مقابل غياب نتائج ملموسة للنمو الاقتصادي المسجل مؤخرًا، إذ بلغ 4.9% في عام 2022 وارتفع إلى 5.6% في 2023، وهو أقل بكثير من الهدف المأمول في “رؤية 2030” الذي حدده الرئيس مواي كيباكي بمعدل 10%.[4]
(&) أزمة اقتصادية خانقة: في خضمّ الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تُعد الخلفية الصلبة للغضب الشعبي في كينيا، سلّط تقرير صادر في مايو 2025 عن البنك الدولي، الضوء على أنّ ارتفاع معدلات الاقتراض المحلي وأسعار الإقراض يشكّلان تهديدًا مباشرًا للقطاع الخاص. وأوضح التقرير ذاته أن الحكومة لجأت بشكل متزايد إلى السوق المحلية لتمويل عجز ميزانيتها، نتيجة انخفاض التمويل الخارجي وتراجع عائدات الضرائب، ما ساهم في تباطؤ نمو الائتمان ليصل إلى -1.4% في ديسمبر 2024، مقارنة بـ13.9% في العام السابق. وقد انعكست هذه الضغوط سلبًا على قطاعات حيوية مثل التصنيع والتعدين، وسط تزايد القروض المتعثرة خاصةً لدى المقرضين التجاريين الصغار. وأشار البنك إلى أن الدين العام بلغ 65.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يضع كينيا في فئة الدول المعرضة بشدة لمخاطر الضائقة المالية.[5]
وتعود أصول هذه الأزمة إلى ما بعد فوز الرئيس الكيني ويليام روتو في انتخابات أغسطس 2022، بعد منافسة شديدة مع زعيم المعارضة رايلا أودينجا. وقد تعهّد روتو في حملته الانتخابية بمعالجة التحديات الاقتصادية الكبرى التي تواجه البلاد، وعلى رأسها ارتفاع تكاليف المعيشة، داعيًا إلى تمكين “الكينيين المهمشين” ودمج الفقراء في المنظومة الاقتصادية. غير أنّ ولايته سرعان ما اصطدمت بواقع مالي بالغ الصعوبة، إذ بلغ الدين الوطني الكيني نحو 77.7 مليار دولار عام 2022. وتستهلك خدمة هذا الدين نحو 67.8% من الإيرادات العامة السنوية، فيما تُعد الصين ومؤسسات مالية دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أبرز دائني البلاد، إذ يمتلكون نحو 35 مليار دولار من هذا الدين.[6]
(&) إصلاحات تقشفية: في مواجهة هذا العبء المالي المتفاقم، أطلقت حكومة روتو في عام 2023 سلسلة من التدابير الرامية لمواجهة التضخم المرتفع (8٪ على أساس سنوي)، وتحفيز النمو الذي تراجع إلى 4.8٪ في عام 2022 بعدما كان عند حدود 7.6٪ في 2021، بالإضافة إلى تسديد الديون المتراكمة عن فترة حكم الرئيس الأسبق أوهورو كينياتا (2013–2022). وتمثلت أبرز هذه الإجراءات في رفع الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة بنسبة 5%، وفرض “ضريبة الإسكان” بنسبة 3% على الموظفين وأصحاب الأعمال، بهدف تمويل مشاريع إسكان للفئات محدودة الدخل.[7]
ومع استمرار الضغوط المالية، أثار تقديم الحكومة للبرلمان مشروع ميزانية عام 2024/2025 في 13 يونيو 2024 استياءًا واسعًا، إذ تضمّن نية الحكومة فرض مزيد من الضرائب بهدف تحصيل موارد ضريبية تقدر، بحسب وزير المالية الكيني نجوجونا ندونغو[8]، بحوالي 346.7 مليار شلن كيني (2.71 مليار دولار)، لتخفيف العجز في الموازنة. وتضمّن المشروع فرض ضريبة قيمة مضافة بنسبة 16% على الخبز. كما شملت المقترحات فرض ضرائب على ما يسمى بـالمنتجات الضارة بالبيئة، والتي زادت بدورها أسعار سلع حيوية مثل الصابون والفوط الصحية والبلاستيك، إلى جانب ضرائب إضافية على السيارات، وتحويل الأموال عبر الهاتف المحمول.[9]
(&) إخفاقات السياسة الخارجية: أسهمت السياسة الخارجية التي انتهجها الرئيس الكيني ويليام روتو في تعميق الأزمة الداخلية، إذ اعتُبرت عاملًا مؤججًا لموجات الاحتجاج الشعبي التي اجتاحت البلاد. فرغم التحديات الاقتصادية البنيوية التي تعاني منها كينيا، اختار روتو الانخراط في صراعات إقليمية معقّدة، أبرزها النزاع في السودان والأزمة في شرق الكونغو الديمقراطية. وتُتهم نيروبي، في هذا السياق، بدعم جماعات متمردة كقوات الدعم السريع في السودان وحركة إم 23 الكونغولية، ما أدى إلى استنزاف موارد الدولة دون مكاسب ملموسة تعود بالنفع على المواطن الكيني.
وقد كان لهذه السياسات الخارجية ارتدادات سريعة، حيث قررت الحكومة السودانية في مارس 2024 حظر استيراد جميع المنتجات الكينية، بما فيها الشاي، في خطوة عقابية ذات دلالة اقتصادية، إذ يُعد السودان ثاني أكبر مستورد إفريقي للشاي الكيني، بقيمة بلغت 2.28 مليار شلن كيني. [10]
في الداخل، فُسّرت هذه الخطوات على نطاق واسع باعتبارها تعبيرًا عن أولويات حكومية مشوهة، تقدّم الطموحات السياسية والشخصية للرئيس على حساب الحاجات المعيشية الملحة. وظهر هذا المزاج العام بوضوح في شعارات المتظاهرين: “لا للتحالف مع المجرمين” و”لا للتورط في دماء الشعوب الأخرى”، في تعبير صارخ عن رفض شعبي لتحويل السياسة الخارجية إلى أداة للمقامرة الإقليمية. وفي هذا الإطار، صرّح السياسي السوداني ناجي الكرشابي[11] بأن علاقة روتو بقوات الدعم السريع تمثل “صداقة تحاصرها الجماهير الكينية”، معتبرًا أن ما يحدث في كينيا هو تمرد شبابي أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا، في مواجهة ما بات يُنظر إليه كتحالفات دموية تتناقض مع تطلعات الشعوب الإفريقية للسلام والاستقرار.
وفي المحصلة، ساهمت مغامرات روتو الإقليمية في تقويض صورة كينيا كوسيط محايد وفاعل للسلام في شرق إفريقيا، وأظهرت أن الانخراط في صراعات خارجية غير محسوبة قد يُفجّر تناقضات الداخل، ويُعزز وعيًا شبابيًا جديدًا يرفض منطق الصفقات المشبوهة، ويطالب بإعادة توجيه الموارد نحو بناء دولة ترتكز على العدالة والمساءلة.